مرت يوم 11 من شهر أبريل سنة 2023 ميلادية، الموافق ليوم الثلاثاء 20 من شهر رمضان سنة 1444 هجرية، الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل الشاعر الغنائي المغربي الكبير المرحوم مصطفى الريكع.
ولم يحتفل بقدومها أحد في هذا البلد السعيد، أو ذكر اسم الشاعر الغنائي أحد، حتى الإذاعة الوطنية المغربية التي يتوفر أرشيفها الغنائي على أكثر من 60 أغنية، لم تخصص له ولو ساعة واحدة على الأقل، لتذكير مستمعيها ومحبيه بمبدع كبير، غادرنا إلى دار الفناء منذ أكثر من أربعة وعشرين سنة.
اقرأ أيضًا أغنية المطر.. تغيير الرؤية الرومانسية للشاعر بدر السياب
أهم أغاني الشاعر الغنائي مصطفى الريكع
لا ننكر أنها بثت على أمواجها الوطنية أغنيتين خلال فترات متفاوتة الأولى عنوانها «سلمت أمري للزين» وهي أغنية عاطفية من كلمات شاعرنا الذي نتحدث عنه في هذا الموضوع.
وتلحين المرحوم إدريس الورياكلي، وغناء المطرب العاطفي المرحوم عبد المنعم الجامعي، الذي ودَّعنا بدوره، إلى دار البقاء يوم الأحد 27 من شهر يونيو سنة 2021 ميلادية.
والأغنية الثانية عنوانها «يا تواب» أغنية دينية متميزة شعرًا ولحنًا وغناء، لحَّنها الأستاذ محمد بن براهيم، وغنتها المطربة المغربية المتألقة نعيمة سميح، التي قررت أخيرًا اعتزال الغناء والابتعاد عن الساحة الفنية، عازمة التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وارتداء الحجاب بعيدًا عن الصحافة الوطنية والدولية.
وحتى الصحف الوطنية المغربية الورقية والرقمية الجديدة والقديمة، لم تنشر خبرًا واحدًا صغيرًا عن ذكرى هذا الشاعر الغنائي المقتدر، ولم تتحدث حتى عن الذكرى الأولى، التي حلت يوم 11 من شهر أبريل سنة 1994 ميلادية.
ولست أدري أيضًا ما إذا كنت أقدر الناس على تقديمه من جديد إلى القرَّاء المغاربة والعرب في هذه الذكرى، وإلى تعريفهم به من جديد.
لا سيما أنه كان دائمًا، يكتب كثيرًا في صمت، مرة في منزله ومرة أخرى في مقر عمله، ولا يحب أبدًا الشهرة المجانية، يتهرب من الصحافة والعاملين والمتعاونين معها، عكس الفنانين الذين يجرون دائمًا وراءها صباحًا ومساءً، وفي كثير من الأحيان يقدمون رشاوى لها.
اقرأ أيضًا نظرة في دوائر علم العروض لشاعر الخليل بن أحمد الفراهيدي
ما لا تعرفه عن الشاعر المغربي الكبير
ومع ذلك كله فقد كان لي شرف كبير، أن أجريت معه سنة 1977 حديثًا صحفيًّا فنيًّا خاصًّا نُشر في جريدة : «الاثنين» المغربية الأسبوعية المحايدة، لصاحبها المرحوم مولاي هاشم العلوي، وكانت المرة الأولى التي سلطت عليه الأضواء هذه الجريدة المذكورة سابقًا، وأستطيع أن أؤكد أن هذا الفنان من ألصق الفنانين المغاربة بذاكرة هذا الجيل الذي أنا منه.
عرفته شاعرًا غنائيًّا قويًّا، فخورًا بمغربيته، معتزًّا بقوميته. يحب وطنه حتى النخاع، وخير دليل على ذلك، أن أغلبية مواضيع أشعاره المغناة، كانت تتميز بخصال الوطنية الخالصة...
عرفته أيضًا في الأشعار الرقيقة العاطفية المرهقة التي نظمها.
عرفت فيه نفسًا حساسة، وقلبًا يعشق الجمال، ويتغنى بمحاسن أوصافه السحرية، وأحسست من تعبيره صدقًا وأصالة، حتى بدا إليَّ أنه يعبر عن نفوسنا جميعًا عندما يعشق.
عرفته في بداية الستينيات من القرن الماضي، وذلك حين كان يتصل به هاتفيًّا المطرب المغربي الكبير، الذي اعتزل الغناء خلال السنوات الأخيرة، لأستاذ عبد الهادي بلخياط شفاه الله وأطال عمره، الذي اعتزل الغناء العاطفي، وأصبح ينشد الأناشيد الدينية فقط.
وذلك من أجل تسجيل أغنية عاطفية جميلة عنوانها «قنديل» للإذاعة المغربية الوطنية المغربية، وبعد تسجيلها وإذاعتها عبر أمواجها الوطنية والمحلية، سجلتها إحدى شركات تسجيل وتوزيع ألأسطوانات، وبيعت في جُل أسواق المدن المغربية، كما أثارت في ذلك الزمن الجميل، انتباه الناس عن الأغنية المغربية.
وما زلت أتذكر أنني كنت أزوره بين الفينة والأخرى، قبل مرضه وكذلك أثناء مرضه، عندما كان طريح الفراش بمنزله الكائن بمدينة سلا العتيقة، وأشاهد هذه الأسطوانة موجودة في خزانته الفنية الخاصة رفقة أسطوانات أخرى مختلفة كتحف فنية نادرة بمنزل الفقيد.
اقرأ أيضًا دراسة متجردة عن أبيات أم السليك بن السلكة
أهم من تعامل معهم من الملحنين والمطربين
عرفته بالإضافة إلى كونه شاعرًا غنائيًّا، ألَّف كثيرًا من الأغاني الوطنية والدينية والعاطفية للإذاعة المغربية، ولحَّنها ملحنون مغاربة مرموقون كالأساتذة: محمد بنعبد السلام ـ أحمد السكوري ـ مصطفى مزواق ـ محمد العراقي أطال الله في أعمارهم، والعربي الكواكبي ـ العابد الزويتن ـ إبراهيم العلمي ـ محمد بنبراهيم وغيرهم ـ رحمهم الله تعالى.
وأداها المطربون والمطربات عبد الهاذي بلخياط ـ نعيمة سميح ـ نادية أيوب ـ سمية عبد العزيز ـ محمد شريف نجاة فائق ـ إيمان الوادي وغيرهم، أطال الله تعالى في أعمارهم، وإسماعيل أحمد ـ المعطي بنقاسم ـ عبد المنعم الجامعي ـ رحمة الله تعالى عليهم.
عرفته أيضًا شاعرًا لعدة ألوان إبداعية من الأدب المغربي الشعبي الساخر، كالقول الساخر والنكتة المغربية الهادفة، وقد كانت سخريته عبارة عن فكاهة، تشتمل على المرارة النفسية وعلى فلسفة ذاتية نابعة من أعماق المجتمع المغربي الشعبي الأصيل.
لم يسبق لجمهوره أن تعرَّف عليه في هذا الاتجاه الفني الفريد إلا بعض أصدقائه القلائل، الذين كانوا يجالسونه باستمرار ويناقشون معه أحوال الفنون المغربية بصفة عامة ومصير الأغنية المغربية بصفة خاصة.
ترك ديوانًا شعريًّا مخطوطًا لم يُطبع، ولم يرَ النور لحد كتابة هذا المقال، يحتوي على أكثر من سبعين قصيدة هزلية ونقدية تعالج بعض القضايا والمشكلات الاجتماعية المغربية والعربية، كان ينوي نشره قيد حياته.
كما ترك كذلك عدة مسرحيات اجتماعية ومسلسلات متنوعة وملاحم غنائية، لم يسبق لها أن رأت النور في حياته لعدم إعطائها الاهتمام الكافي من طرف بعض المنتجين المغاربة أو العرب المختصين في ذلك، مع العلم أنه كان يعرضها دائمًا عليهم، لكن بدون جدوى وبقيت حبرًا على ورق، وبعد رحيله ذهب وذهبت معه.
اقرأ أيضًا بيان من الأب الكريم.. للشاعر إسماعيل عبد الرشيد
تشجيعه للمطربين وصوته الشجي
وعرفته من أروع الملحنين الماهرين، فقد كان يساعد بعض الملحنين الصاعدين آنذاك، الذين كان يحيل أشعاره الغنائية المقبولة من طرف لجنة دراسة النصوص الشعرية والزجلية الغنائية طبعًا عليهم قصد تلحينها وإسناد أدائها إلى بعض المطربين أو المطربات.
وكان دائمًا يكتفي بالتصريح للمكتب المغربي لحقوق المؤلفين بالمغرب بكتابة الأشعار فقط، ويتنازل في الوقت نفسه عن حقوق ألحانها والتصريح بها؛ وذلك من أجل تشجيعهم.
وعرفته أيضًا مغنيًا ذا صوت حسن يسري في الجسم، ويجري في العروق فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتسمو له النفس، وتعتز الجوارح، وتخفق الحركات، وقد نصحه عدة فنانين بممارسة الغناء عندما استمعوا إلى أدائه الجيد، لكنه رفض ذلك، واكتفى بكتابة الشعر فقط.
وبحكم عمله الذي كان قارًّا في مصالح بلدية مدينة سلا، كان يشارك بين الفينة والأخرى، رفقة الفنان الخطاط محمد الغرباوي المغربي، في تخطيط بعض اللافتات، التي كانت تنجزها مصالح البلدية في مختلف المناسبات بما فيها الوطنية والدينية والاجتماعية وغيرها.
لكن ظروف وظيفته لم تسمح له بإقامة ولو معرض واحد منفرد خاص بلوحاته، كي يتمكن الجمهور الواسع من التعرف عليه جيدًا وعلى أعماله الفنية الرائعة التي ظلت طوال حياته ضائعة.
وقد سبق لي أن أجريت معه دردشة فنية، نشرتها جريدة «الإثنين» المحايدة الأسبوعية، في العدد رقم 27 ليوم الخميس 1 من شهر دجنبر سنة 1976، الموافق ليوم 10 من شهر ذي الحجة سنة 1996، التي كان يصدرها الصحفي الكبير المرحوم محمود هاشم العلوي، من مدينة الرباط بالمملكة المغربية الشريفة.
ويرجع لها الفضل الكبير؛ لأنها هي الجريدة المغربية الأولى، أجرت معه دردشة صحفية فنية في المغرب. كما نشرت مقالًا ثانيًا بعد وفاته بجريدة الأسبوع الصحفي، التي كان يديرها المرحوم مولاي مصطفى العلوي في العدد 324 بتاريخ الجمعة 7 من شهر يونيو سنة 1994، الموافق لـ 23 من شهر ذي الحجة 1414 هجرية.
اقرأ أيضًا المسيرة الفنية لشاعر العامية المصرية مصطفى ناصر
مواقفه الوطنية
بعد الخطاب الملكي التاريخي السامي، الذي ألقاه الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه يوم الخميس 16 من شهر أكتوبر سنة 1975 ميلادية، أعلن من خلاله عن تنظيم مسيرة شعبية سلمية مظفرة خضراء من أجل استرجاع الأقاليم الصحراوية الجنوبية، ووضع حد للاستعمار الإسباني.
ويوم الخميس 3 من شهر ذي القعدة سنة 1395 هجرية، الموافق ليوم 6 من شهر نونبر سنة 1975 ميلادية، أعلن عن انطلاق هذه المسيرة، التي شارك فيها 350 ألف متطوع، قاموا بمسيرة خضراء في اتجاه الصحراء، التي كانت تحتلها إسبانيا.
وقد كانت هذه المسيرة معجزة القرن العشرين آنذاك، ولا تزال معجزة إلى اليوم، حيث انطلقت من جميع المدن والقرى المغربية من شمالها وشرقها وغربها إلى جنوبها، لتحرر الأراضي الصحراوية الغالية، التي كان المستعمر الإسباني يسميها بالصحراء الغربية، وكان المغرب دائمًا يطالب باستقلالها.
وليس غريبًا في حق الفنان المغربي هذا الموقف، وهو الشمعة التي تحرق نفسها لتضيء للآخرين، فقد أسهم جل الفنانين المغاربة بإبداعاتهم الغنائية المتميزة الخاصة بموضوع التغني بهذه المسيرة الناجحة، توجت حدثها في فترة وجيزة جدًّا.
ألفتها ولحنتها وغنتها مجموعة من الفنانين المغاربة من بينهم الشاعر المرحوم مصطفى الريكع، الذي يُعد من أبرز الشعراء المغاربة، الذين شاركوا في نظم أشعار غنائية خاصة بالمسيرة الخضراء، وألف أربعة قصائد في هذا الموضوع، سجلت الإذاعة المغربية منها قصيدتين.
الأولى تحمل عنوان «مسيرة الحسن» قام بتلحينها المرحوم الطاهر الرابولي، الذي كان محافظًا للجوق الوطني، وغنتها المجموعة الصوتية التابعة لدار الإذاعة المغربية آنذاك، والثانية عنوانها «الله الوطن الملك» من تلحين الأستاذ عبد الله المستيني وغناء المجموعة الصوتية كذلك.
اقرأ أيضًا توظيف مصطلحات علم العروض في شعر أبي العلاء المعري
وفاته منذ ربع قرن
هذه باختصار بعض الجوانب القليلة من الجوانب الغزيرة المتعددة لشاعر مغربي وفنان مبدع من بين الفنانين المغاربة، الذين يزخر بهم المغرب الحبيب.
إنه الفنان المغربي الكبير المرحوم مصطفى الريكع، الذي رزقه الله سبحانه وتعالى كثيرًا من المواهب الفنية منذ صغره، ولو رجعنا لعدها بالتفصيل لضاق بنا المجال، إننا في أمس الحاجة إلى تأليف كتاب، يشتمل على حياته الاجتماعية والفنية، بما فيها تجاربه المختلفة التي مر بها.
وإطلاق اسمه على أحد المعلمات الثقافية أو الفنية أو الرياضية في بعض شوارع مدينة سلا، الذي رأى النور في أحضانها، أو في مدن مغربية أخرى.
كتنويه لما في ذلك من تخليد للأسماء المغربية التي صنعت مجد الأغنية المغربية العصرية الأصيلة، دون أن ننسى رواد الأغنية الشعبية؛ وذلك لإنعاش ذاكرة الأجيال الجديدة ولترسيخ قيم الوفاء والمواطنة بمثل هؤلاء، الذين يستحقون هذا التكريم، لما قدموه من إبداعات ثقافية وفنية ورياضية راقية وغيرها لهذا البلد الحبيب.
غادرنا إلى دار البقاء، يوم 11 من شهر أبريل سنة 1994 ميلادية، الموافق ليوم الاثنين 30 من شهر شوال سنة 1414 هجرية، بمدينة سلا، مدينة الأبراج والأسوار وعمق التاريخ، وهي المدينة التي رأى النور فيها.
ودُفن في مقبرتها المسماة باب معلقة، التي امتلأت مند عدة سنوات عن آخرها. ورغم رحيله عنا، سيبقى ذلك الإنسان الشاعر الفنان المبدع المتميز، راسخًا في قلوبنا وذاكرتنا جميعًا.
أغدق الله عليه رحماته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.