مراحل حملة محمد علي الي الشام واسباب جلائها

مرّت الحروب في بلاد الشام بمرحلتين، انتهت المرحلة الأولى باتفاقية كوتاهية، عام 1833، ورسّخت السيطرة المصرية على الشام، في حين انتهت المرحلة الثانية باتفاقية لندن عام 1840، وقضت بانسحاب الجيش المصري.

 المرحلة الأولى 

  تكمن الأسباب المباشرة للحرب في النزاع الداخلي الذي حصل بين محمد علي باشا وعبد الله باشا والي عكا. فقد افتعل محمد علي خلافًا مع والي عكا إذ طالبه بإعادة المال الذي كان قد قدّمه إليه، وإعادة الفلاحين المصريين الفارّين من دفع الضرائب ومن الخدمة في الزراعة، ولمّا ماطل عبد الله باشا في تلبية طلب محمد علي، اتخذ هذه المماطلة ذريعة لاحتلال أراضي الشام زحف الجيش المصري باتجاه فلسطين في 14 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1831م، الموافق 7 جمادى الأولى سنة 1247هـ، تحت قيادة إبراهيم باشا بن محمد علي، وسيطر على مدنها من دون مقاومة تُذكر، باستثناء عكا التي ضرب عليها حصارًا مركزًا برًا وبحرًا حتى لا يأتيها المدد بحرًا فلا يقوى على فتحها، كما حصل لنابليون بونابرت من قبل حين حاصرها سنة 1799. وبينما كانت تقاوم حصار إبراهيم باشا، كان أبناء الأمير بشير، ومعهم جنود مصريون، يسيطرون على صور وصيدا وبيروت وجبيل. ولمّا استعصت عليهم طرابلس أسرع إبراهيم باشا لنجدة حلفائه، ولم تلبث أن سقطت في أيديهم. اضطربت الدولة العثمانية أمام زحف الجيش المصري، وعدّت ذلك عصيانًا وقامت للتصدي له. واصطدم جيش عثماني، بقيادة عثمان باشا والي حلب، بالجيش المصري في سهل الزرّاعة جنوبي حمص، إلا أنه انهزم أمامه. ثم عاد إبراهيم باشا إلى عكا لمواصلة حصارها، فدخلها عنوة في 28 مايو/أيار سنة 1832م، الموافق فيه 27 ذي الحجة سنة 1247هـ، وأسر عبد الله باشا وأرسله إلى مصر. وتابع القائد المصري زحفه باتجاه الشمال، بعد سيطرته على عكا، فدخل دمشق مع الأمير بشير وجيشه بعد أن قاتلا والي المدينة، ورحّب السكان به لأنهم كانوا أقرب إلى الرغبة في تغيير حكامهم بفعل مساوئ الولاة العثمانيين.  جزع الباب العالي لسقوط عكا ودمشق وسيطرة المصريين على جنوب الشام، وخشي السلطان أن يتزعزع مركزه أمام انتصاراتهم، فحشد جيشًا آخر بقيادة السرعسكر حسين باشا ودفعه لوقف الجيش المصري، وإجبار المصريين على الانسحاب من بلاد الشام، وأصدر في الوقت نفسه فرمانًا أعلن فيه خيانة محمد علي باشا وابنه إبراهيم للسلطة الشرعيّة. اصطدم إبراهيم باشا بالجيش العثماني الجديد في معركة حمص وتغلّب عليه في 29 يونيو/حزيران سنة 1832م، الموافق 10 صفر سنة 1248هـ، وسيطر على حماة ودخل إثر ذلك مدينة حلب، وتأهب لاستئناف الزحف باتجاه الشمال. انسحب حسين باشا شمالاً، بعد خسارته، وتمركز في ممر بيلان وهو أحد الممرات الفاصلة بين بلاد الشام والأناضول، فلحقه إبراهيم باشا واصطدم به وتغلّب عليه، وطارد من بقي من جيشه حتى اضطرهم إلى مغادرة المنطقة عن طريق ميناء الإسكندرونة وسيطر على الممر، كما احتل ميناء إياس، شمالي الإسكندرونة، ودخل ولاية أضنة وطرسوس. وشجعت هزيمة العثمانيين إبراهيم باشا على مواصلة طريقه، فتقدم في داخل بلاد الأناضول حتى بلغ مدينة قونية، وكان العثمانيون قد تجمعوا ليدافعوا عن قلب السلطنة، ودارت فيها معركة قونية في 20 ديسمبر/كانون الأول سنة 1832م، الموافق 27 رجب سنة 1248هـ، ونجح القائد المصري في التغلّب عليهم وأسر قائدهم الصدر الأعظم محمد رشيد باشا. وبهذه الغلبة انفتحت الطريق أمامه إلى الآستانة، حتى خُيّل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية السلطنة العثمانية أصبحت قريبة. عقب هزيمة قونية ساد القلق عاصمة الخلافة، وارتعدت فرائص السلطان الذي خشي من تقدم إبراهيم باشا نحو العاصمة، فاستنجد بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر المداهم، فلم ينجده إلا روسيا، إذ كانت بريطانيا منهمكة في شؤونها الداخلية وبالمسألة البلجيكية، وكانت فرنسا تؤيد محمد علي وتتعاون معه، وقد كان في جيشه عدد من القادة الفرنسيين، ووقفت كل من النمسا وبروسيا على الحياد. أرسلت روسيا عام 1833 أسطولاً بحريًا إلى الآستانة للدفاع عنها، ولم تكد بريطانيا وفرنسا تطلعان على وجود السفن الروسية في مياه الآستانة حتى هالهما الأمر، وشعرتا بالخطر الروسي عليهما، وخشيتا أن تستغل روسيا تداعي الدولة العثمانية لتقوّي مركزها في الممرات البحرية، فسارعتا إلى عرض مساعدتهما على السلطان فيما إذا تخلّى عن المساعدة الروسية. ولكن الروس رفضوا إجلاء سفنهم إلا بعد أن ينسحب المصريون من الأناضول. عندئذ نشط ممثلو بريطانيا وفرنسا في التوسط بين السلطان ومحمد علي، حتى تم تبادل الرسائل بينهما  واستخدمت فرنسا علاقاتها الوديّة مع مصر لإقناع محمد علي باشا بتسوية خلافه مع السلطان، وأن لا يتشدد في طلباته، وأن يكتفي من فتوحه بسناجق صيدا وطرابلس والقدس ونابلس. رفض محمد علي باشا وجهة النظر الفرنسية، وأصرّ على ضم بلاد الشام وولاية أضنة، وجعل جبال طوروس الحد الفاصل بين الدولة العثمانية وممتلكاته، وأمر ابنه بالتقدم في فتوحه بهدف الضغط علي السلطان وبذلت فرنسا جهودًا مضنية للتوفيق بين وجهتي النظر، العثمانية والمصرية، وهدّدت، في إحدى مراحل المفاوضات، بقطع العلاقة مع مصر. وأخيرًا توصل الجانبان إلى توقيع اتفاقية كوتاهيه، في 4 مايو/أيار سنة 1833م، الموافق فيه 14 ذي الحجة سنة 1248هـ،  تنازل الباب العالي بموجبها عن كامل بلاد الشام، وأقرّ لمحمد علي باشا بولاية مصر وكريت وكامل سوريا الطبيعية (بما يشمل لبنان وفلسطين وأضنة)، وبولاية ابنه إبراهيم على جدّة. وقد تعهد محمد علي لقاء ذلك، بأن يؤدي للسلطان كل عام الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل. وهكذا جلا إبراهيم باشا عن الأناضول، وانتهت المرحلة الأولى لحروب الشام، وبدا أن الأزمة قد انتهت أيضًا. لم تكن التسوية، التي تمّت في كوتاهية، إلا تسوية مؤقتة، إذ أن محمد علي باشا لم يوافق على عقدها إلا خشية من تهديد الدول الأوروبية بحرمانه من فتوحه، ومن جهته وافق السلطان محمود الثاني على عقدها مكرهًا تحت ضغط الأحداث العسكرية والسياسية، وهو عازم على استئناف القتال في ظروف أفضل لاستعادة نفوذه في بلاد الشام ومصر، ولمّا كان التفكير السياسي لكل طرف على هذا الشكل من التناقض، كان لا بد من استئناف الحرب لتقرير النتيجة النهائية. ونفّذ السلطان سياسة إستراتيجية من شقين: إنه راح يُحرّض سكان بلاد الشام ضد الحكم المصري من جهة، وقام بحشد القوات لضرب الجيوش المصرية وإرغامها على الخروج من البلاد، بمساعدة بريطانيا، من جهة أخرى. وأدرك محمد علي باشا، بعد التطورات السياسية، بأنّ مواقف الدول الأوروبية كانت لغير صالحه، وبأنّ خططه الانفصالية غير قابلة للتحقيق، لكنه لم يفقد الأمل باعتراف السلطنة بالحقوق الوراثية لعائلته في حكم المناطق التي كانت تحت إدارته، وحاول أن ينتهز الفرصة لإجراء محادثات جديدة، فأجرى مباحثات مع مبعوث السلطان، صارم أفندي، في مصر انتهت بالفشل بسبب التصلّب في المواقف. وهكذا تطورت الأمور السياسية نحو التأزم، وأضحت الحرب بين الجانبين أمرًا لا مفر منه، وجرت الاستعدادات الحربية في الآستانة بشكل نشط ومكثف، وتابعت الدول الأوروبية الميول العسكرية لدى السلطان باهتمام بالغ. استغل السلطان ثورة سكان بلاد الشام على الحكم المصري، ودفع بجيش في ربيع عام 1839، بقيادة حافظ باشا، إلى بلاد الشام، وكان ظهوره عند الحدود كافيًا لإيصال الأزمة إلى ذروتها، أما إبراهيم باشا فقد كان يترقب، تنفيذًا لرغبة أبيه في اجتناب كل ما يُظهره بمظهر المعتدي. وبعد أن احتشد الجمعان، أصدر السلطان أمره إلى حافظ باشا بمهاجمة إبراهيم باشا المتحصن في حلب. ويبدو أن محمد علي تملّكه الفرح لتحمّل السلطان وقائده مسؤولية البدء بالعمليات العسكرية المعادية، لذلك أمر ابنه بمهاجمة الجيش العثماني، وكان ذلك في 15 يونيو/حزيران سنة 1839م، الموافق 2 ربيع الآخر سنة 1255هـ. وفي معركة نسيب (الواقعة شرق عنتاب في الجزيرة الفراتية)، مُني الجيش العثماني بخسارة فادحة وكارثة حقيقية، إذ كاد الجيش أن يُفنى عن بكرة أبيه، وأسر المصريون نحوًا من خمسة عشر ألف جندي، وغنموا كميات هائلة من الأسلحة والمؤن. وتوفي السلطان محمود الثاني قبل أن يبلغه نبأ الهزيمة.خلف السلطان عبد المجيد الأول أباه السلطان محمود الثاني، وهو صبي لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وسرعان ما سارع إلى إجراء مفاوضات مع محمد علي. فاشترط محمد علي، لعقد الصلح، أن يكون الحكم في الشام ومصر حقًا وراثيًا في أسرته. وكاد السلطان عبد المجيد يقبل شروط محمد علي لو لم تصله مذكرة مشتركة من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا، تطلب منه قطع المفاوضات مع محمد علي. وكانت الدول الأربع قد اتفقت على منع محمد علي، القوي، من أن يحلّ محل السلطنة العثمانية، الضعيفة، في المشرق العربي، الذي تمر فيه طريق بريطانيا إلى الهند. أما فرنسا فقد انفردت في سياستها الشرقية عن الدول الأربع، ورأت أن تستمر في تأييد محمد علي، على أمل أن تضمن لها مقامًا ممتازًا في المنطقة. ولم تلبث الدول الأربع أن عقدت عام 1840 مع الحكومة العثمانية مؤتمرًا في لندن بحث فيه المجتمعون ما دُعي "بالمسألة الشرقية"، وأسفر المؤتمر عن توقيع معاهدة التحالف الرباعي. وفي هذه المعاهدة عرضت الدول الأوروبية الأربع على محمد علي ولاية مصر وراثيًا، وولاية عكا مدى حياته. واشترطت هذه الدول أن يُعلن محمد علي قبوله بهذا العرض خلال عشرة أيام، فإن لم يفعل تسحب الدول الأربع عرضها الخاص بولاية عكا. أما إذا لم يُجب في مدة عشرين يومًا فإن الدول الأربع تسحب عرضها كله، تاركةً للسلطان حرية حرمانه من ولاية مصر. كان محمد علي باشا من جهته مصممًا على التمسك بالبلاد التي فتحها وأقرّته عليها اتفاقية كوتاهيه، وأخذ يراهن على مساعدة فرنسا وعلى حرب أوروبية ينتظرها بين ساعة وأخرى، ولمّا أبلغته السلطنة العثمانية وقناصل الدول الأوروبية في مصر شروط المعاهدة، ترك الأيام العشرة تمر من دون أن يُصدر أي ردّ رسمي، فأبلغه قناصل الدول الأوروبية، في اليوم الحادي عشر، الإنذار الثاني، وأمهلوه عشرة أيام أخرى، كما أبلغوه أنه لم يعد له الحق في ولاية عكا. ومرّت الأيام العشرة الثانية من دون أن يقبل صراحة تنفيذ بنود الاتفاقية، فعدّ قناصل الدول الأوروبية أن ذلك يعني الرفض، عندئذ أصدر السلطان فرمانًا بخلعه من ولاية مصر. أمام هذا الأمر شرعت الدول الأوروبية باتخاذ إجراءات تمهيدية لتنفيذ تعهداتها، فأمرت بريطانيا أسطولها في البحر المتوسط أن يقطع المواصلات البرية والبحرية بين مصر والشام وضرب موانئ هذه البلاد، وأوعزت إلى سفيرها في الآستانة بإشعال نار الثورة ضد محمد علي في المدن والقرى الشاميّة، كما قطعت الدول الأوروبية الأربع علاقاتها بمصر. استقبل محمد علي باشا نبأ عزله بهدوء، وأعرب عن أمله بالتغلب على هذه المحنة، ثم جنح للسلم عندما ظهر أمير البحر البريطاني "نابييه" أمام الإسكندرية، مهددًا بلغة الحديد والنار، ورأى أن فرنسا غير قادرة على مقاومة أوروبا كلها، لذلك وقّع اتفاقية مع أمير البحر المذكور وعد فيها بالإذعان لرغبات الدول الكبرى والجلاء عن بلاد الشام بشرط ضمان ولايته الوراثية لمصر، لكن الدولة العثمانية رفضت هذا الشرط بإيعاز من بريطانيا. ساندت فرنسا محمد علي باشا في موقفه، وتشدّدت في ذلك حتى خيف من وقوع حرب أوروبية، عندئذ تدخلت كل من النمسا وبروسيا في هذه القضية وأجبرتا بريطانيا وروسيا على تبني وجهة نظر محمد علي باشا وفرنسا، فاجتاز والي مصر مأزق الخلع وإن أُرغم على الاكتفاء بولاية مصر في المستقبل، وفعلاً أصدر السلطان فرمانًا بجعل ولاية مصر وراثية لمحمد علي باشا، وانتهت بذلك الأزمة العثمانية - المصرية، وجلا المصريون عن الشام.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.