لم أكن يومًا ممن يستهويهم عالم القهوة، لم أكن أفهم ولع البعض بها، ولا كيف يمكن لنكهة مُرَّة أن تصبح إدمانًا.
كنت أقف على الحياد، أراقب من بعيد، غير مكترث بنقاشات عشاقها عن الفوارق الدقيقة بين القهوة الإثيوبية والكولومبية، أو عن القوام.
ثم جاء اليوم الذي تغيَّر فيه كل شيء..
كنت بحاجة إلى عمل، وأي وظيفة بدت مناسبة في ذلك الوقت، وجدت نفسي خلف آلة إعداد القهوة في مقهى صغير، بين أكياس البن وعبق الحبوب المحمصة.
في البداية، تعاملت مع الأمر ببرود، أتعلم الخطوات الميكانيكية لتحضير المشروبات كما لو أنني أتعلم تشغيل آلة لا روح لها، لكن شيئًا ما بدأ يتسلل إليّ.
كانت الرائحة أول ما أسرني.. لم يكن الأمر مجرد استنشاق عابر، بل إحساس غريب، كأن الهواء حولي مشبع بقصة قديمة، كأن القهوة ليست مجرد مشروب، بل ذاكرة، دفء، حكايات لم تُحكَ بعد، في كل مرة أطحن الحبوب، يندفع منها عطر قوي يملأ صدري وكأنني أستنشق الزمن نفسه.
بمرور الأيام، صرت أدرك أنني لم أعد أتعامل مع القهوة كونها وظيفة، بل هي فنٌّ.. صرت أستطيع التمييز بين الدرجات المختلفة لتحميص الحبوب بمجرد أن أشمَّها، تعلمت كيف يختلف الاستخلاص بين كل دفعة وأخرى، وكيف يؤثر الضغط ودرجة الحرارة في كل قطرة تتساقط في الفنجان.
بدأت أرى القهوة كائنًا حيًّا، ينبض، يتنفس، يعبر عن نفسه بطريقته الخاصة.
المفارقة أنني لم أشربها قط! لم أشعر يومًا بالحاجة إلى ذلك، لأنني أدمنتها بطريقة مختلفة، كنت أكتفي بوجودها حولي، برائحتها التي علقت بملابسي ويدي، بصوت الطحن، ببخار الإسبريسو المتصاعد، برغوة الحليب التي ترسم أشكالًا على سطح القهوة.
في بعض الليالي، حين أعود إلى المنزل، أجدني أبحث عن تلك الرائحة في زوايا الغرفة، وكأنها تلاحقني، أو كأنني تركت جزءًا مني هناك، خلف آلة القهوة، بين الأكواب، وسط الحبوب المحمصة.
أنا المدمن الذي لا يحتاج إلى جرعته في فنجان!
👍👍👍
تعبيراتك بسيطة وصادقة ومتالقة ربنا يوفقك ننتظر المزيد
شكرا لك كلك ذوق
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.