مدخل إلى علم التاريخ

استُعملت كلمة "التاريخ" في اللغة العربية بمعنى الإعلام بالوقت، وتاريخ شيء من الأشياء قد يدل على وقته الذي ينتهي إليه، واستُعملت كلمة "التاريخ" في التراث العربي الإسلامي بمعنى: أمجاد القوم وخلاصة شمائلهم، وتُستعمل اليوم بمعنى: مسيرة البشر، فيقال: جرى ذلك في التاريخ أو تاريخ العرب، وتُستعمل أيضًا بمعنى كتابة التاريخ ودراسته.

وتقابل كلمة "تاريخ" كلمة History بالإنجليزية، وكلمة Histoire بالفرنسية، وكلاهما اشتقاق من الكلمة اليونانية القديمة Istoria التي تعني البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة. والجدير بالذكر أن الفيلسوف أرسطو قد استعمل كلمة Istoria بمعنى السرد المنظم لمجموعة من الظواهر الطبيعية وفقًا للتسلسل الزمني، ولا يزال هذا الاستعمال شائعًا فيما نسميه "التاريخ الطبيعي".

وتدل كلمة "تاريخ"، كما في قول هرنشو، على مطلق مجرى الحوادث الذي يصنعه الأبطال أو الشعوب. ومن ثم، فقد صارت كلمة "تاريخ" بالمعنى العام ماضي الإنسان، أو سلسلة من حوادث متعاقبة في زمن مضى.

إن الأوروبيين يستعملون لفظ "التاريخ" في ثلاثة مستويات من المعاني:

  1. أن التاريخ يُعرِّفنا بماضي البشرية كما حدث.
  2. أن التاريخ يعني محاولة الإنسان وصف الماضي وتفسيره.
  3. دراسة التاريخ كعلم.

ولقد أصبح مألوفًا شائعًا التفريق بين التاريخ كمسيرة للإنسانية (History) وبين التأريخ أو علم التاريخ (Historiography)، أي كتابة التاريخ بجمع أحداثه وتنظيمها ودراستها وتحليلها واستخلاص النتائج. ويقول جورج سانتيانا في مولد الفكر: "يجب ألا نخلط بين معنى سياق الحوادث كما تقع فعلاً، وبين مشهد هذه الأحداث الذي يلتقطه المؤرخ ويضمه في كتابه".

ما التاريخ؟

يجيب بعض الباحثين بأنه دراسة الحوادث نفسها. ومن وجهة نظر المؤرخ، كل ما يطرأ من تغير على حياة البشر، أو كل ما يطرأ من تغير على الأرض أو في الكون متصل بحياة الإنسان.

وإذا كان التاريخ في حقيقته هو الحوادث، وكانت الحوادث هي التغيرات، والتغيرات وليدة الزمان، انتهينا إلى أن التاريخ هو الزمان، ويكون ميدان اهتمام المؤرخ على هذا هو دراسة كل تغير طرأ على الكون وكان له تأثير على حياة الإنسان.

وقد يُوهم بأن ميدان التاريخ هو الماضي وحده، أو حكاية ما انقضى وفات، وليس هذا بصحيح؛ لأننا إذا قلنا إن التاريخ هو نهر الحياة، فإن هذا النهر متصل السير قبلنا وفي زماننا وبعد زماننا. إن كلمة "تاريخ" تعني مجموعة الأحداث التي وقعت في الماضي، وتقع حاليًا، ثم التنبؤ على هدى ذلك.

فليس التاريخ في نظر إنسان اليوم -كما هو الشأن لإنسان الأمس- سلسلة من حوادث متعاقبة في زمن مضى، وليس كما عرَّفه بعض الناس بأنه "علم الماضي"؛ لأن الماضي - كما يقول بعض الباحثين - وعاء لكل مظاهر الكون، يتسع للجيولوجيا، ولعلم تطور الحياة. وكذلك للإنسان تاريخه - في جملة الكائنات - إذ إن هذا الكائن لا نستطيع أن نتصوره إلا في محيط وفي وضع وحالة. إن التاريخ هو علم الإنسان في وضعه وأحواله المتغيرة دائمًا.

غاية التاريخ

غاية التاريخ وهدفه

شعر الناس منذ القدم بما للتاريخ من قيمة، فاعتنوا بدراسته، وسارعوا إلى تدوين أخبار الإنسانية على صفحات الذاكرة. على أن قيمة هذه الأخبار تباينت في أنظارهم بتباين الزمان والمكان، فحينما كان التاريخ قصصًا يختار الرواة من حوادثه ما لذَّ لهم ويلذ جمهورهم.

وأتت التواريخ تدوي بصليل السيوف، وتقطر دماء، وتضج بالتهليل والتكبير، أو بالندب والعويل. وعلى هذا النحو، وردت التواريخ في شكل حوليات شُحنت بكل حادثة عُدت جديرة بأن تُسجّل على صفحات التاريخ الغراء. إن النظرة القديمة لغاية التاريخ تغيّرت، وأصبح غاية التاريخ وهدفه أن يشرح لنا الإنسان، وأن يطلع الإنسان على حقيقة نفسه.

هل التاريخ علم؟

هل يصح أن نعد التاريخ علمًا من العلوم؟ المؤرخ الشهير بيوري (1861-1927م) أعلن عام 1903م: "أن التاريخ علم لا أكثر ولا أقل"، في حين نجد أن الفلاسفة الطبيعيين قد انبروا من ناحية ثانية ليثبتوا أن التاريخ أقل من العلم.

أما الفلاسفة الطبيعيون، فيرون أن مادة التاريخ تختلف عن مادة العلوم التي يشتغلون بها، من حيث كونها غير ثابتة ولا قابلة للتجديد. وأما رجال الأدب، فيرون أن التاريخ، سواء كان علمًا أم غير علم، فهو لا ريب فن من الفنون، وأن العلم لا يعطينا من التاريخ سوى العظام المعروفة اليابسة، وأنه لا مندوحة عن خيال الشاعر إذا أُريد نشر تلك العظام، وإذا ما أحياها الخيال، فهي بحاجة إلى براعة الكاتب.

ويقول ابن خلدون: "إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقبال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، فهو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، وتُطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال". وهذه العبارة تدل على فهم واعٍ لطبيعة التاريخ ووظيفته.

ويقول المؤرخ والفيلسوف الإنجليزي المشهور كارليل (1795-1881): إن الأبطال هم الذين يصنعون التاريخ ويغيرون مجراه. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما العلم؟ يقول هكسلي: "إن العلم هو كل معرفة تقوم على الدليل والاستنباط"، ويقول ألكسندر هيل: "كل معرفة معقولة فهي علم". وعلى كل حال، فإن العلم بصفة عامة لا يخرج عن كونه محاولة لتركيز الجهد حول شيء لا نعرفه في محاولة جادة لمعرفته والوقوف على حقيقته. ونستطيع أن نقول: إن التاريخ علم وفن وفلسفة، فهو علم من حيث إنه قائم على أساس سليم في البحث والتفكير وإيجاد المصادر الأصلية ومناقشتها والحكم عليها.

موضوع علم التاريخ

هل التاريخ سيرة الملوك والأمراء؟ وهل التاريخ سيرة الشخصيات الكبيرة والأبطال الأفذاذ الذين قادوا الأمم؟ وهل التاريخ قصة لحياة طبقة من الطبقات؟ وهل التاريخ دراسة للناحية السياسية فحسب؟ وهل التاريخ شامل للنواحي الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والفنية للبشرية؟

والواقع أن التاريخ لا يقتصر على الناحية السياسية أو الاقتصادية، فنواحي نشاط الإنسان أوسع من ذلك، وعلى كاتب التاريخ أن يهتم بهذه النواحي حسب قيمتها في توجيه حياة الشعوب، ثم إن التاريخ لا يقتصر على حياة الأبطال والملوك والأمراء، فحياة الشعوب والطبقات لها أهميتها الخاصة.

ويرى بعض المؤرخين أن الموضوعات والقضايا السياسية هي أهم الموضوعات التي يجب على المؤرخ أن يبحثها، وأن أهم ظاهرة في التاريخ السياسي هي نشأة القوميات وحركات الوحدة بين الجماعات والدويلات والأقطار، وأن التقدم الاجتماعي والاقتصادي يواكب اتساع رقعة الاتحادات السياسية، فبقدر ما تزيد مساحة الدولة، بقدر ما تزيد قدرتها المادية وتتحسن أوضاعها الاجتماعية.

إن التحالفات والاتحادات وحركات الاندماج كانت - وستظل - أساس العلاقات الدولية؛ لأن قيامها ليس بالأمر السهل، بل عملية شاقة. والتاريخ القديم مملوء بأحداث الاتحادات السياسية، بل إن فكرة الدولة السياسية من ابتكار العصور القديمة، فقد حققها المصريون عام 3180 ق.م، وعرفها السومريون والبابليون في شكل دويلات المدن التي نقلها الإغريق عنهم.

وفي العصر الحديث، نرى نماذج من حركات الوحدة، مثل: الوحدة الإيطالية والاتحاد الألماني وغيرهما من حركات الوحدة أو التقسيم التي خلقت الدول السياسية. إن القرن التاسع عشر قد شهد جدلًا بين المؤرخين في تفضيل السياسة على الاقتصاد أم الاقتصاد على السياسة خلال عملية البحث التاريخي.

وخلاصة القول: إن موضوع التاريخ - كأي علم آخر من العلوم - هو الكشف عن نوع معين من الحقائق، وإن التاريخ هو العلم الذي يحاول الإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بما بذلته البشرية من جهود منذ كانت، سواء في النواحي الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفنية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن