الزمن يمضي مسرعًا، وتمضي الأيام على عجالة، فكأنما الأيام تمضي كالساعات، والساعات كالدقائق، والدقائق تمضي كالثواني، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار).
لكنه لا يزال العام 365 يومًا، والسنة 12 شهرًا، والشهر أربعة أسابيع، والأسبوع سبعة أيام، واليوم 24 ساعة، والساعة 60 دقيقة... الخ. فما الذي تغيّر يا ترى.
وعندما كنّا صغارًا لم يكن هنالك هاتف سلكيّ أو لاسلكيّ، وكنّا نتواصل عبر رسائل البريد التي نكتبها وربما نعطرها ونكتب العنوان ونلصق عليها طابعًا بريديًا مع عبرة "شكرًا لساعي البريد" لتأخذ أسبوعًا في الذهاب وبعدها بأسبوع يأتي الجواب. وكانت الأيام تمضي ثقالًا والليالي تمرّ طوال، حتى قال فيها الشاعر امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فيا لك من ليل كأن نجومَه
بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ
لكننا الآن قلّما نشكو من ثقل النهار أو طول الليل، فلم نعُد نراقب النجوم، حيث التلوث البيئيّ وموجات الغبار تحجب الرؤيا، والإنارة على عيوبها، ما تركت لنا من منفذ نرى منه السماء.
وبعد أن دارت عجلة الزمن، تم اختراع الكهرباء والراديو والتلفزيون والأقمار الصناعية وحتى الإنسان الآلي، أما الموبايل فكان أصله الهاتف السلكي القديم ثم تطور سريعًا بمراحل حتى وصل إلى الموبايل الحديث (الصوت والصورة وملحقاته من كاميرات واستوديو ووتز وفايبر ومحفظة النقود...الخ)، والإنترنت حتى وصلنا يومنا هذا، وصرنا نكلّم بعضنا ونرى بعضنا من خلف الجدران ومن بعد آلاف الكيلومترات، وكان ذلك في عداد المعجزات أو ضربا من المحال، لم نكن نتصوّر حدوث كل ذلك في يوم من الأيام. شكلت ثورة وسائل التواصل الاجتماعيّ غزوا للبشرية في كوكب الأرض، اليوتيوب، الماسنجر، الفايبر، التل غرام،...الخ. ومحركات البحث كوكل وكروم والخ.
أصبحت الأفلام، والأغاني، والكتب، والتفاسير، والتراجم، والديانات، والدعاية لها، وطقوسها، والتاريخ، والجغرافية، والدراسة، والصور، والرسائل، وبنات الهوى، والدعارة، والوفيات، والتعازي، كلّها في جهاز الموبايل. البيع والشراء، وتجارة البيوت، والسيارات، والإيجار، لعبات مسلية كرة قدم وشطرنج ودومينو وحروب والبوبجي وحروب القبائل والورق وتسلية، بين يديك وفي جيبك وو... وغيرها الكثير.
لقد سلبتنا التكنلوجيا وحدة العائلة وجوها الأسريّ، وإنك لتجد الأسر الآن يجلسون إلى بعضهم ولكن كل منهم في واد، وكل يدير ظهره للآخر. فالصغار يلعبون، والكبار يبحثون والشباب يتغازلون، وبعضهم يدرسون، ولو لسعت أحدهم ذبابة أو بعوضة لما شعر بها أو أبعدها عن جسده. كما آنستنا النظر إلى السماء والتمتع بمنظرها البديع "والسماء ذات الحبك".
يا ترى أين يمضي الوقت، ليس هنالك من فسحة للتدبر أو الصفاء مع النفس. تطالعك محركات البحث بأخبار عن الجريمة والحروب والأمراض والصحة والمخدرات والغانيات والوفيات والإيمان والعلاقات الإنسانية، وتأخذك من موضوع لآخر حتى يمضي عليك اليوم دون أن تنتهي من إلقاء نظرة شاملة على موضوع تهتم به من أخبار ومعلومات، فتترك الموضوع في منتصفه لتتوجّه للثاني وهلم جرّا حتى يأخذك النوم أو العمل. لقد أصبحنا في هرج ومرج، وفي هذا استهلاك ومضيعة للوقت.
يأتيك اتصال هاتفيّ من المعارف والأهل والأقارب والأصدقاء وما إن تفرغ من مكالمة حتى تنشغل بالأخرى، وفي هذا استهلاك للوقت.
ومن يمارس بعض الهوايات كالألعاب التي تستقطب نسبًا مهمّة من الشباب وتأخذ جل وقتهم وفي هذا مضيعة واستهلاك للوقت. ومن يجلس لمغازلة بنات الهوى ويقضي وقتًا طويلًا دون أن يشعر بمرور ذلك الوقت وفي هذا مضيعة واستهلاك للوقت.
كنّا بدون الهواتف والتلفاز والحواسيب والمسلسلات والأفلام ووسائل التواصل، نجلس مع بعضنا بهدوء حتى نسمع دقات الثواني في الساعة المعلقة على أحد جدران الغرفة. لكننا الآن كل في واد، ننام متأخرين وننهض متأخرين، تمرّ بنا الساعات والدقائق ونحن منشغلين بأجهزة الهواتف ووسائل التواصل دون أن نحسّ بالوقت.
إذاً من حقنا أن نقول إن الوقت يمرّ دون أن نشعر به الآن، وأن الوقت يمضي سريعًا بنا، ذلك لأن التكنلوجيا تأخذ كلّ وقتنا، فالهواتف الذكية بأيدينا على أريكة الجلوس، وترافقنا إلى سرير المنام، وسيل المعلومات المتدفق عبر الإنترنت لم يعُد يكفيه عمر واحد، فالوقت محدود، والعمر معدود، لكن المعلومات المتدفقة غير محدودة، وتتضاعف في كل لحظة، وتزداد غرابة وتشويقاً، الوقت لا يتمدد ولا يتكثف ولا يتضاعف ولا يتقلص ولا يؤجل ولا يباع ولا يشترى ولا يخزّن ولا يسترجع، له وحدات حسابية تقاس بالثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنيين، وعمرنا جزء مستقطع من هذه الوحدات، فهلّا أحسنا استثماره، فها هو اليوم يمضي دون أن نفهم كيف قضيناه، وها هو العمر يمضي ولا نعرف كيف استهلكناه، ثم نتساءل كيف انقضت من عمرنا كلّ تلك السنين، وفي هذا تفسير لجانب من جوانب سرّ تسارع الزّمن.
Apr 25, 2022
("والسماء ذات الحبك".إنكم لفي قول مختلف ) وفي طور مختلف وفي دوامة وحلقة مفرغة ... الخ اختلاف وتداخل واضطراب وتلجلج ..الله المستعان .. أحسنت معالي اللواء ..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.