ولد قيس بن الملوح العامري في بادية نجد الشمالية الغربية سنة 24 هجرية في عهد الخليفة عثمان بن عفان، نشأ قيس في مضارب قومه، وبدأت حياته برعي الأغنام والإبل، وكان قيس في مرحلة طفولته ودوداً، ووديعاً، ورحيماً، ومتعاوناً، ارتبطت علاقة قيس بليلى العامرية منذ مرحلة الطفولة؛ حيث كانا يرعيان الأغنام معاً على سفوح وهضاب وآكام وقفاري نجد، فليلى كانت من قبيلة قيس، كما أن مضارب أسرة ليلى قريبة من مضارب قيس، وكانا يتبادلان الزيارات، ويُكن كلاهما للآخر وداً وحباً.
وذات مرة تم إرسال قيس إلى منزل ليلى لطلب قليل من السمن، فبادرت ليلى وأخذت إناء السمن الممتلئ، وجعلت تصب السمن لوعاء قيس الصغير، ويتبادلان الحديث، وكلا منهما ينظر إلى وجه الآخر، حتى امتلأ الإناء وفاض حتى بلغ السمن على الأرض، وهما يواصلان حديثهما، من هنا بدأت الأنظار تلتفت إليهما، وأصبحت نساء وغلمان ورجال القبيلة يتكلمون عن حب قيسٍ لليلى، وكما كانت عادات العرب قديماً إذا شاع حب فتى بفتاة لا يزوِّجونهما، بل يجعلونهم أحاديث وينشرون عنهم الحكايات، ويفصلون بينهما.
وكثُرت إشاعات الناس حينما عقر قيس ناقته تلبية لطلب ليلى وصويحباتها في المرعى، وكان ذلك في بداية وصولهما مرحلة العشق، وأصبحا في سن المراهقة.
قرر أبو ليلى منع ابنته عن مقابلة قيس، وشكاه لأبيه وعشيرته؛ حيث تم زجر قيس، حاولوا منعه عن ليلى، لكن كان هذا الضغط سبباً لازدياد قيس حباً وعشقاً وغراماً بمعشوقته ليلى، وأصبح قيس ينشد الأشعار فيها، وتتحدث العرب بأشعاره، وأغانيه الغرامية؛ حتى قرر أبو ليلى الرحيلَ وهجر الديار مع ابنته وأهله، وترك المضارب، ونزل بأرض تيماء؛ عندها شعر قيس بالوحشة، وأصبح لا يغدو إلى أي عمل إلا وقد زار ديار ليلى الخاوية، بل ولا يعود من عمله إلا وقد قبّل حجار ديار ليلى، والناس يترقبونه، فمنهم من يصفه بالجنون، ومنهم من يصفه بالولهان، ومنهم من يصفه بالتائه، وأنشد أبياتاً عند تقبيله ديار مسكن ليلى قائلاً:
أمرُّ على الديار ديار ليلى أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
لم يدم غياب ليلى وأهلها طويلاً، فقد عادوا لكنهم كانوا قد زوجوها من رجل يسمى الورد، ولم يكن هذا الزواج برضا ليلى، إنما تزوجت مكرهة من أبيها، حيث أصيبت بالمرض، وأصبحت لا تتناول الأكل إلا قليلاً، وطلبوا لها الأطباء، حيث زادها الحزن سقماً، ووهناً، ووصلت الأخبار إلى عشيقها التائه في صحراء نجد، والذي أنشد قائلاً:
يقولون ليلى بالعراق مريضة فياليتني كنت الطبيب المداويا
كان يتميز قيس بالسرعة فقد كان يطارد الظباء والغزلان، وما إن يتسنّى له الإمساك بإحداهن يطيل النظر بعيونها التي تشبه عيون ليلى، حتى إن صياداً بعد جهد جهيد أمسك غزالاً وأحكم وثاقها بالحبال والمسانيد، وجعل قيساً مسؤولاً عليها عله يتمكن من افتراس فريسة أخرى، فما كان من قيس إلا أن فكَّ وثاقها وأطلقها؛ معللاً ذلك أنها شبيهة ليلى، وعندما عاد الصياد وجد قيساً قد أطلق الغزال فوبّخه، فرد عليه قيس أن سبب إطلاقه الغزال كان أنها تشبه ليلى.
لقد عاش قيس تائهاً هائماً مجنوناً ينشد الأشعار الغزلية، ويرثي حبه لمعشوقته ليلى هاجراً الديار والأهل والأصحاب، منعزلاً في الهضاب، والوديان، والقفار، ورثى حاله وحكايته في الليل من على الهضاب بأبلغ أبيات عرفتها العرب قال فيها:
والله لا أدري علام هجرتني وأي أمور فيك يا ليل أركب
أقطع حبل الوصل فالموت دونه وأشرب كاساً علقماً ليس يُشرب
رمتني يد الأيام من قوس محنةٍ فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرب
كعصفورة في يد طفلٍ يهينها تقاسي عذاب الموت والطفل يلعب
فلا الطفل ذو عقل يرقُّ لحالها ولا الطير مطلوق الجناح فيذهب
لقد كانت حياة قيس عذاب وكذلك كانت حياة ليلى، وماتت ليلى بسبب مرضها وهيامها وعشقها قيساً، فما كان منه إلا أن اتجه إلى الوديان وأحجار الهضاب وجعل يتوجع ويئن ويصيح ويبكي وبعد ثلاثة أيام من موت ليلى وُجد قيس صريعاً مطروحاً بين تلك الأحجار سنة 68هـ، في خلافة عبد الملك بن مروان الذي كان قد سبق وقد أهدر دمه، وتمت مواراة جثمانه، وجعلوا ضريح قبره مجاوراً لضريح قبر ليلى، وانتهت بذلك قصة حب، وعذاب، ووله، وتيم، وجنون لكنها لم تنته أبياتاً وأشعاراً وقصصهما معاً، وصارت الأبيات التي كان ينشدها قيس في الأدب العربي والفارسي والتركي، وغيره من تراث العالم في الأدب والشعر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.