يُعرف بديهيًا بأن المد والجزر ما هما إلا ظاهرتان طبيعيتان تحدثان لمياه المحيطات والبحار بتأثير من القمر، فالمد ارتفاع مؤقت تدريجيّ في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، والجزر انخفاض مؤقت تدريجيّ أيضًا في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، وتحدث هذه الظاهرة بمعدل مرتين في اليوم كل 12 ساعة، وكأنهما في جدال طويل لا يتوقف، في سجال عتيد، في استمرار عنيد، إلّا أن هذا الاستمرار هو ضمن الحركة الكونية الفطرية، هو ضمن منظومة لا خلل فيها ولا عثرة، وهذا ما يميّز هذا الانتظام، الذي بدوره يشير لخلل مختلف من كائن مختلف، لا بدّ وأنه شبيه بالبحر فهو مكون بنسبة ثلاثة أرباع من ماء، يتأثر بالقمر وحركته صباحًا ومساءً، يمارس مدا وجزرا لا كبحر ولكن كإنسان!
هذه الممارسة لا تقتصر على ذاته وتفاصيل خروجها للعالم، بل تتجاوز ذلك إلى علاقاته بين الناس! علّك تتساءل يا صديقي كيف يكون ذلك؟
دعني أوضّح لك مقصدي فإن كان البحر يمتد وينخفض، فالإنسان كذلك يتمدد ويتراجع! دعني أوضح لك مثالًا، ألا يحدث ذلك في العلاقات، تمتد لتتصل بشكلٍ واضح ومرتفع، ثم تتراجع وتنخفض بشكل واضح!
ألا يحدث أن يعلو صوت تلك العلاقة، وينخفض، ألا يحدث أن يقف المرء عاجزًا في بعض ذاك المد والجزر؟ ألا يحدث أن يتساءل الإنسان ما علاقة الأحداث الواقعة بمد مفاجئ أو جزر مفاجئ؟ ألا يحدث أن يثقل على المرء ما تحمل أكتافه فينزوي جزرًا أو يعتلي مدًا؟
إن الظواهر الطبيعية صورة وانعكاس لهذا الإنسان الساكن في أعماقنا، فنحن نضيء كالقمر، ونتوهج كالشمس، ونمد بعطاءاتنا كخيوطها، ونسير في سكون كنهر، وننهمر كمطر، ونجدب كصحراء، ونثور كبركان، ونتزلزل كزلزال هز الأرض برواسيها، وننثر خيراتنا كالبحر، ونغضب كليلة عاصفة، ونتحرّك كريح ساكنة أو عاتية، ونتموج كموج محيط أزرق، وننبسط كمهاد، ونعلو بأنفسنا على الطريق كهضاب، ونسقط تماما كحفرة، كبئر، كجوف، ككهف مظلم!
إننا لا نختلف عن الكون في ظواهره الطبيعية، بل نتناغم معه بانسجام، وكأننا جميعا أفرادا وجماعات سمفونية واحدة! نستقي من بعضنا ونتطبع بطباع بعضنا، وإن كان من الحكمة فهم ذلك فمن الأحكم التأمل في تلك الظواهر والطبائع للأشياء، وتعلم كيفية التأسي بها في أعمق نقطة من جودتها، وكيفية تجنب أضعف نقطة فيها.
إننا البحر بمده وجزره، فكيف لي ولك أن نحول هذا المد لمد وارتفاع لا يقوم إلّا على قواعد من رضا ونور وحكمة، لا يعرف الامتداد بالحزن والهم والغم، ويتجنب الامتداد بالظلم والقهر والذل، ويجرؤ على الامتداد بالخير والحق والعدل، إننا البحر بجزره، ننخفض عند القيل والقال، ننخفض عند التألي والخصام، ننخفض عند الحياد والتعدي، نمتنع عن الانخفاض في حالات القوّة، والقدرة على التأثير بالنور، والترنم بالخير، وتلحين الحب والود، أنا وأنت نتأرجح في هذه الحياة بين مد الثبات، وجزر الاضطراب، بين مد الاطمئنان، وجزر القلق، بين مد العزيمة وجزر الكسل، بين مد التأكد وجزر الحيرة، بين مد الحبّ وجزر الكراهية، بين مد الإقبال وجزر الأحجام، بين مد الرضا وجزر السخط، بين مد الحقيقة وجزر الوهم، بين مئين من المد والجزر القائم على الفطرة في جعل الخير مدا والشر جزرا، في جعل النافع مدًا والضار جزرًا، لكن ماذا إن شوهت تلك الفطرة وتلوثت وتغبشت؟ وانقلبت الموازين، تخيل كيف أنك ضمن تلك المنظومة الكونية الوحيد الذي تجرأ على قلب الميزان واستبدل الخير بالشر، أجبني كيف لك أن تواجه القمر المنير والشمس السّاطعة والبحار المسخرة، والجبال الشاهقة؟ كيف لك أن تواجه الرّمال الساحرة، والأشجار المخضرة، والرّياح الباردة، والروابي البهية، والسنابل المعطاءة؟
كيف لك أن تخالف سنن الكون التي وضعها ربّ الكون، وتكون عثرة في انسجام كامل!
Apr 29, 2022
من ظاهرة علمية إلى علاقات الإنسان
خروج عن الموضوع
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.