«مترو باريس».. قصة قصيرة

هل في مقدور نوَّار أن ينسجم في بلد الجنِّ والملائكة، وهو لا يملك في مقدوره لسانًا يتواصل به، أم يلجأ إلى اعتبارات أخرى؟

ولكن كيف يقضي حوائجه اليوميَّة، وقد صارت اللغة أيديولوجية، وهُويَّة؟ هل يقدر على فعل التَّحدي، أم يمارس لغة الإشارات ليصير أبكم بالضرورة؟ أم أنَّه يقتنع بأنَّ مَن ملك اللغة ملك إقامة في ديار الآخرين؟ والإقامة حياة، وتجربة جديدة، وميلاد جديد، تجربة تعلمِّك كيف تأكل مع الراعي دون أن تلحق بالشَّاة ضررًا. 

فالهجرة كتاب مفتوح على أفق جديد متجدِّد لا كاتب له، ولا ناشر. إنَّها معايشة الآخرين، في تواصلهم، وانسجامهم مع ذواتهم، هذه هي الغربة، أو سمِّها ديار الآخرين، هذا ما همس به في أذني اليمنى عشيَّة أمس وهو يردِّد: كم يحسُّ المرء بغربة الأمكنة، ووحشتها حين لا يفهم لغة من يحيطون به، فيبقى ينظر إلى تقاسيم وجوه النَّاس لعلَّه يفهم شيئًا، ولو بالإشارة مثل البومة تمامًا، تجدها تنظر في كلِّ اتجاه وهي صامتة، والصمت باقة من أحاديث كثيرة لا يعرف اللسان كيف ينطقها، أو قل إن شئت لقد صار الصمت ملاذها الأخير، وهُويتها الأبديَّة؛ لذا ها أنا الآن أشعر بأنِّي طائر مكسور الجناح، وخاصة حين أرى النَّاس يتواصلون فيما بينهم، يتهامسون، يتضاحكون، ونحن خرس.

ردَّ وفي حلقه غصَّة: كم أنا ساذج، كان في مقدوري أن أتعلَّم اللغة وأنا على مقاعد الدِّراسة، لقد كانت أمي تنصحني محذرة: إيَّاك ودراستك، فأنت في الأقل دخلت المدرسة، وهذا إنجاز كبير، أما نحن، فلم نكن محظوظين، ولم نعرف لذة القراءة، ولا الكتابة إطلاقًا. إذن هذه هي فرصتك لتتعلَّم اللغة، اللغة جناح طائر في ليلة عاصفة باردة، فالمال يمكن أن يضيع، أو أن يُسرق، والقوة قد تزول، إلا العلم يبقى ملكك وإلى الأبد.

كم أنت رائع حين ترفع قلمك لتحبِّر لي رسالة وأنت بعيد عني، وتكون أكثر روعة حين تنزل في فندق، وتملأ بطاقة ما، أو وثيقة ما، إنَّها نعمة ربانيَّة لا تُقدَّر بثمن، إنَّها كرامة المرء، وسيادته، ولا سيما حين يوقفك رجل أمن في مطار ما، أو في مدخل ميناء، أو في جهة ما ليسألك عن هُويتك، فتجيبه وبكل هدوء إجابة مقنعة، فكم هو رائع هذا، رائع جدًّا. 

مترو باريس 2

أنا نوّار دخلت باريس وفي قلبي شيء من ظلم الجغرافيا، نوّار القادم من الجنوب جئت باريس رغبة في قضاء حاجة، ولكن في صبيحة ما نهضت وكأنّ شيئًا ينقصني، أو أنّ هناك شيئًا سيقع لا محالة، حاولت إقناع نفسيّ بأنّي في بلد متحضر، وعليَّ أن أسلك سلوكًا يساير بلد الأنوار، ولكن ما إن رأيت كانيش صغيرًا مزّهوا بنفسه، وهو يرقّص ذيّله القصير حتى قذفته بقدمي اليمنى، صوّت الكانش تصويتة واحدة حينها سمعته صاحبته، فخرجت مسرعة وهي تتلفظ بألفاظ بذيئة، فسمعها أخيّ فخرج للتو ملتمسًا العذر قائلًا في صوت دافئ: سيّدتي هذا أخي، أخي الذي رضعنا معًا من ثدي واحدة.

ردّت في صوت كأنّه البوق: لا يظهر عليه ذلك. هكذا قالت: فرّد عليها وشيء من الصدمة تهزّه: سيّدتي لقد تعرّض في طفولته إلى عضّة من قبل كلب شرس منذ ذلك الوقت وهو خائف، يخاف كلّما رأى كلبًا أو شيئًا يشبه الكلاب، فخلقت عنده عقدة نفسيّة، عقدة رهيبة فكلما صادف كلبًا إلا وركله، وهنا قاطعته المرأة: سيّدي الكريم لا تنسَ أن تأخذه لطبيب نفساني حالًا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

رائعة وجميلة هذة القصة
احسنت
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا سيّدتي الكريم على مرورك من هنا تحياتي
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا سيّدتي الكريمة على مرورك من هنا تحياتي
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

لقد تعديت الحد الاقصي للإبداع ربنا ييسرلك كل نجاح
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا على مرورك من هنا تحياتي
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم ليلى الشبراوى عبد الحكيم
بقلم ليلى الشبراوى عبد الحكيم
بقلم عائشة عادل ابوسريع
بقلم أسماء عوض التونسي
بقلم ليلى الشبراوى عبد الحكيم