تتناول مسرحية موليير «Le Misanthrope» قصة ألسِست الذي يعيش صراعًا مجتمعيًّا بين تبنِّيه للمصداقية والشفافية في عرض آرائه وطرحها كونها نهجًا أخلاقيٍّا يحيا به في القرن السابع عشر الذي يعجُّ بالزيف والتصنُّع الأخلاقي. وتعرض المسرحية بطلها ألسِست لجميع أنواع السخرية، وصولًا إلى تعرضه للمساءلة القانونية بهتانًا، وأخيرًا نبذه اجتماعيًّا في الصحراء.
«في السطح المتعرج، تبدو المساحة المسطحة تشوُّهًا مظهريًّا ذميمًا».
يتطرق لهذه الفلسفة الكاتب الفرنسي موليير في مسرحيته الشهيرة «Le Misanthrope» التي تناولت في أعمق مستوياتها حالة الفردانية في تهذيب الذات دون الانصياع للواقع، وتتسم شخصية ألسِست بالشعور بـ«الأنا العليا» والترفع المبالغ فيه.
تدور أحداث المسرحية حول ألسِست، الذي قرر أن يتبنى إحدى أبرز الفضائل وأمجدها: الصراحة المطلقة. كان ألسِست تجسيدًا نقيًّا لهذه الفضيلة، دون أي تصفية أو تكييف، في ظل المجتمع الفرنسي الغارق آنذاك في فخامة بلاط لويس الرابع عشر، إذ استُمدَّ البريق من بروتوكولات تميل إلى التلميع والتفخيم المبالغ فيه.
كانت تلك المرحلة حقبة محورية في القرن السابع عشر، إذ كانت فرنسا تنتقل من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع أكثر قسوة وأكثر ابتعادًا عن الأرض - المجتمع المدني. ومع التطور، برزت الانتهازية والمراوغة بين أبناء الطبقة الوسطى، إذ كان هذا سلاحهم الذي مكَّنهم من فرض سيطرتهم والدخول إلى غرف النبلاء؛ أي بمعناه البسيط، يُعاقب من لا يجيد فن المجاملة والتزييف.
منذ المشهد الأول، يبدأ النص بتوبيخ ألسِست لصديقه «فيلنت» الذي امتدح أحد النبلاء بعبارات مبالغ فيها، على الرغم من أنه لم يكن يعرف حتى اسمه الفعلي. وكان ألسِست ناقدًا لاذعًا لكل أنواع المجاملة الاجتماعية، مصنفًا إياها على أنها كذب ونفاق. لكنه لم يكتفِ برفضها فقط، بل رفض حتى التصالح مع فكرة وجودها، حتى لو لم يكن الآخرون منخرطين فيها. ربما كان ألسِست يسعى إلى تهذيب ذاته بنقد الآخرين - ونقد ذاته أولًا.
حين نذكر تهذيب الذات، يتبادر إلى أذهاننا تحسين الفرد لسلوكياته وأخلاقياته، لكن مصدر هذا التهذيب ومنبعه يختلف باختلاف الأفراد والمنظور الذي ينظرون منه إلى الأمور. وهنا تكمن براعة مولير في تصوير ألسِست بمظهر مثير للضحك والسخرية، على الرغم من كونه -بالمفهوم الشمولي- من أبطال الفضيلة، ليظهر التوتر ما بين الفضيلة والواقعية.
فإن كانت الظروف المجتمعية في حالة تغير مستمر، فلماذا لم تتمكن هذه المجتمعات من الوصول إلى الصورة المجردة للفضيلة كما تُصور لها؟ هل يعني ذلك أن المجتمعات البشرية تعيش في حالة من الفتور الأخلاقي، حيث تطمح فكريًّا إلى المغالاة في الفضيلة في حين تزجرها فعليًّا في ممارساتها اليومية؟
احسنتي النشر
شكرًا لكِ، يسعدني أنه نال إعجابك
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.