أن تستيقظ ذات مساءٍ، لا صباح؛ لأن الصحوة الحقيقية لا تأتي في الضوء، بل في ظلٍّ يتسلل من ثقب الوعي…
أن تكتشف فجأة أنك كنت تمشي لا إلى حيث تريد، بل إلى حيث يريد فيك شيء ما… شيء لا وجه له، ولا اسم، ولا رائحة، لكنه يعرفك أكثر مما تعرف نفسك.
ما بعد الوهم، ليس صحوة…
بل انكسارٌ ناعم في المرايا التي كنت تراها جزءًا منك، فتنفجر رؤيتك لا لتكشف الحقيقة، بل لتُعرِّي هشاشة ما كنت تسميه «أناك».
لطالما قلت «أنا قررت»، «أنا اخترت»، «أنا أردت»…
لكن ما هذه «الأنا»؟
من الذي ينطق بها؟
وهل كانت تملك القرار أم كانت، ببساطة، صدى لقرارات سبقتها بمراحل؟
تخيل أن حياتك كلها كانت نهرًا تسير فيه دون مقاومة، فقط لأنك كنت تظن أن الماء هو منبعك، لا سيلٌ قادم من منبع لا تعرفه.
هل كنت تسبح؟ أم كنت تنجرف؟
وهل في العمق فرقٌ بين من يختار أن ينقاد… ومن يُقاد وهو يظن أنه يختار؟
في مرحلة ما بعد الوهم، تسقط اللغة…
تفقد الكلمات معناها، لأنك تدرك أن «الحرية» و«الإرادة» و«الاختيار» ليست سوى رداءات، نرتديها لنشعر أننا لسنا عراة أمام المجهول.
لكن المجهول لا يهتم بكلماتك، ولا بخوفك.
هو فقط يتمدد في داخلك، ببطء، كما يتمدد الليل في مدينة أطفأت أنوارها طوعًا… أو جبرًا… أو لأن لا أحد يعلم من الذي يتحكم بالمصابيح.
في ما بعد الوهم… لا تعود تبحث عن الإجابات، بل تبدأ في التساؤل عن الأسئلة ذاتها:
من الذي غرس فيك حاجتك إلى الاختيار؟
من الذي جعلك تؤمن أن المعنى لا يُولد إلا من الإرادة؟
ومن الذي أقنعك أن الحرية لا بد أن تُمارس، لا أن تُتأمل؟
هنا، تنكسر الثنائية:
لم تعد مسيّرًا أو مخيَّرًا، بل صدى لارتطام احتمالاتٍ لا تعرف من أطلقها.
كل «قرار» تتخذه هو في الحقيقة تفاعلٌ كيميائي بين جيناتٍ لم تخترها، وذكرياتٍ لم تطلبها، وظروفٍ لم تصنعها.
ومع ذلك… تمضي.
تمضي، لأنك عرفت الآن أن المعنى لا يأتي من الحرية، بل من قدرتك على أن توهم نفسك بها بصدق.
أن تمارس الدور كأنك من كتبه، أن تُحب من تحبه روحك دون أن تسأل من زرع الميل.
أن تقول «أنا» ليس لأنك متيقِّن منها، بل لأنك لا تملك غيرها.
ما بعد الوهم ليس ظلمة.
هو سكونٌ شفيف، يشبه لحظة بين الحلم واليقظة، في تلك اللحظة التي لا تدري فيها إن كنتَ أنت من يحلم… أم أن شخصًا ما يحلم بك.
وهنا فقط، تبدأ بالكتابة.
لا لتفسر العالم…
بل لتهمس في أذن العدم:
«أنا أعرف أنك تتحكم بي… لكنني قررت أن أضحك في وجهك.»
👍👍👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.