اللغة وعاء العلم، كلمة كثيرًا ما رددناها، لكن لم نكن نعرف معنى تلك الجملة، يمكننا أن نصف اللغة بأنها "قنطرة" تعبر عليها المعلومات من مكان لآخر، ومن شخص لشخص، ومن زمان لزمان، وذلك ما يهمنا في ذلك المقال.
انتقال المعلومات عن الحضارة الفرعونية لم يكن دون وجود لغة وتدوين وكتابة، فتخيل معي عزيزي القارئ أن المصري القديم لو لم يدون تاريخه وعاداته وأحداثه، كيف كنا سننظر إلى تلك الحضارة؟
كانت ستظل مجرد علامة استفهام عمرها 7000 عام، مبهمة الملامح وصخورها مجرد صخور، ولم نكن لنعرف عن المعابد سوى أنها بنايات ضخمة فقط، قس على ذلك باقي الأمور.
اليوم نتحدث عن وعاء الحضارة الفرعونية والسبب في تبديد الظلام عن ما تركه لنا الأجداد، نتحدث اليوم عن الكتابة الهيروغليفية، فلتستمتع بالقراءة.
تعريف الكتابة الهيروغليفية
اللغة الهيروغليفية هي نظام الكتابة الذي اعتمده المصريون القدماء في التسجيل والكتابة والعمليات الحسابية في مصر القديمة، انبثقت منها مع الوقت لغات أخرى مثل "الديموطيقية والهيراطيقية".
الاسم الذي كان يطلق على اللغة الهيروغليفية هو "نقش مقدس"؛ لأن تلك اللغة كان ينقش بها على جدران المعابد والمقابر في مصر القديمة، واستخدمت تلك اللغة في المعابد بالتحديد لسببين، نتعرف إليهما معا.
السبب الأول للتسجيل والتدوين، فإن المصري القديم اعتقد بأهمية نقش اسم المتوفى على المقبرة، واسم الأب والأم والأخوات؛ لأن الاسم كان مهمًا مثل الجسد تمامًا، فضياع الاسم يعني أن الروح لن تتعرف إلى صاحبها في الحياة الآخرة، وعلى هذا الفناء الأبدي، واهتم المصري القديم بتدوين الوظيفة على المقبرة.
السبب الثاني لما لها من قيمة جمالية ومنظر فني جميل، تمامًا مثل الخط العربي، فعُدت اللغة الهيروغليفية نظامًا للكتابة ونمطًا زخرفيًا في الوقت نفسه.
كلمة "هيروغليفية" ليست كلمة مصرية كما يعتقد بعض الناس، وإنما جاءت من الكلمة الإغريقية "ἱερογλύφος" التي هي الأخرى جاءت من الكلمتين الإغريقيتين "هيروس" و"جلوفوس" وتعني "الكتابة المقدسة"، وإنما اسم اللغة بالمصرية القديمة هو "ميدو نتروا" وتعني الكلمة نفسها.
للهيروغليفية اسم آخر وهو الكتابة المنقوشة أو النقش المقدس؛ لأنها كانت تكتب بأسلوب النقش الغائر أو البارز على المعابد والتماثيل وغيره.
لم تكن الكتابة الهيروغليفية شائعة بين جميع أفراد الشعب المصري، وذلك لصعوبة الكتابة بها، فكان استخدام الهيروغليفية المصرية مقتصرًا على الكهنة والكتاب تقريبًا.
من هو مكتشف الكتابة الهيروغليفية؟
يرجع اكتشاف اللغة الهيروغليفية إلى عالم اللغويات الفرنسي "جان فرانسوا شامبليون" وذلك عندما قامت فرنسا بالحملة الفرنسية على مصر، ففي عام 1799 احتل الفرنسيون "طابية رشيد"، وهي قلعة أسسها السلطان المملوكي "الأشرف قايتباي" وغيروا اسمها إلى "قلعة جوليان".
ما يهمنا في الموضوع أن الفرنسيين وجدوا حجر رشيد في أثناء حفر خندق حول القلعة، وقد اكتشف الملازم "بوشار" ذلك الحجر وتسليمه، وما زال إلى الآن ذلك الحجر في المتحف البريطاني.
كان الحجر يعد بمنزلة كنز للأثريين، وذلك لنقش النص الذي كتب عليه بثلاث لغات، وهم الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة، فكان من السهل ترجمة نص وإسقاطه على ما يعادله من اللغتين الآخرتين.
مرت عملية فك رموز ذلك الحجر بمراحل عدة، فشامبليون كان منذ طفولته مهووسًا بعلم المصريات، فقدم أول ورقة بحثية في حياته عن فك رموز اللغة الديموطيقية عام 1806، لكن في عام 1820 كان فك رموز حجر رشيد هو محور حياة شامبليون.
وفي عام 1822 خرج إلى العالم أول كتاب من شامبليون يتحدث عن فك الرموز الهيروغليفية في ذلك الحجر، وصرح فيه أن اللغة المصرية القديمة تلك كانت مزيجًا بين الرموز والإشارات الصوتية.
وقد نشر شامبليون أيضًا ملخصًا عام 1824 يتحدث فيه عن فك الرموز ومعانيها والمدلولات الصوتية في اللغة ومفاهيمها، لم يكتفِ شامبليون بذلك الأمر، لكنه سافر إلى مصر في عام 1829 ليستكمل دراسة تلك اللغة، ويعود بعدها بنقوش جديدة للهيروغليفية لم تقرأ أو تدرس من قبل.
علماء حاولوا فك رموز حجر رشيد
لا نقصد بالقول إن من أول من فك رموز حجر رشيد هو شامبليون وحسب، لا ننكر أن له الفضل الأكبر في كشف معالم تلك اللغة، لكن توجد أيضًا محاولات سبقت شامبليون، ومنها الناجح أيضًا.
مثل العالم "توماس يونج" الذي درس نسخته من حجر رشيد، فإن ذلك الحجر طبعت منه نسخ عدة للمهتمين، وقارنها بمسلة قد عثر عليها في جزيرة "فيلة" في أسوان عام 1815، وكان منقوش عليها نصًا بلغتين "الهيروغليفية واليونانية"، وبنى افتراض أن الخراطيش تحتوي على اسم الملك، وبذلك قد تكون تلك البذرة في معرفة اللغة الهيروغليفية.
العلماء المسلمين والهيروغليفية
أيضًا حاول بعض العلماء المسلمين فك الرموز الهيروغليفية، فمثلًا ألف العالم "ابن وحشي" كتاب (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) الذي تحدث فيه عن 89 لغة وقارنها بالعربية، واكتشف ابن وحشي أن اللغة الهيروغليفية رموز صوتية، وقد نجح في تحليل عدد منه.
أيضًا العالم ابن الفاتك أشار إلى أن "بيثاجورس" كان لديه معرفة بخط العامة "الديموطيقي" وخط الكهنة "الهيراطيقي" والخط الملكي "الهيروغليفي"، وما قد قرأت عزيزي القارئ إن أشار إلى شيء فإنه يشير إلى معرفة "ابن الفاتك والعلماء العرب بالصور المختلفة لتلك اللغة، وغيره من العلماء العرب؛ مثل: "جابر بن حيان، أيوب بن مسلمة، ذو النون المصري، ابن الدريهم، ابن إسحاق الكندي.
ختامًا، لا يسع البشرية إلا أن يشكروا أولئك العلماء على محاولاتهم وجهودهم في الكشف عن ألغاز تلك اللغة، فدونهم كانت ستظل اللغة مجرد ثرثرات وطلاسم منقوشة على الحجر، نشكرك على حسن المتابعة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.