بوصول الطفل الثالثة من عمره تحديدًا، تبدأ بعض السلوكيات الغريبة في الظهور، للدرجة التي يشك فيها الوالدان بقدرتهم على إطاعة طفلهم للأوامر والنواهي، ويتساءلون: إذا كان الطفل يقوم بهذه التصرفات في هذه السن، فكيف سيكون الأمر عندما يصل مرحلة البلوغ أو المراهقة؟
لذلك تنهال النصائح والتوبيخات أحيانًا من المقربين والأصدقاء، عندما يرون مثل هذه التصرفات على أطفالهم، كيف يسمحون لهم بالصراخ أو البكاء أو العناد ورفض إطاعة الأوامر، كل ذلك يزيد غليان الدم في عروق الوالدين، إلى أن يقررا ضرب الطفل أو إهانته وتوبيخه أمام الآخرين، وهنا المشكلة.
قبل سن الثالثة
قبل سن الثالثة، الطفل المطيع الهادئ، وطلباته مجابة حتى قبل أن يطلبها، والجميع يحمله ويدلِّله، إلى أن أتم الفطام وأصبح بإمكانه المشي بخطوات ثابتة، فتبدأ لديه الرغبة في اكتشاف البيئة من حوله. يرفض أن يساعده أحد، فهو يريد أن يجرب نفسه، يجرب قدراته وإمكاناته في الحصول على ما يريد بنفسه.
ولأن ليس كل ما يطلبه أو يرغب في الحصول عليه مفيد له، فقد يكون سببًا في إيذائه كاللعب بالنار أو السكين وغيرها، يهرع الوالدان إلى منعه وضربه إن لزم الأمر، فيزيد عناد الطفل على اكتشاف هذا الشيء الذي ضُرب من أجله.
الطفل قبل سن الثالثة، كان إذا بكى وأعطيناه الدمية أو اللعبة سكت، وإذا أراد رؤية السيارة من البلكونة، قرَّبناه من النافذة فيهدأ عندما ينظر إلى السيارات في الشارع، أما الآن فالأمر مختلف، فإن أبدى رغبته في الحصول على شيء لا يمكن لأحد أن يقف أمامه.
اقرأ أيضًا: هل تعاني حركة طفلك ونشاطه الزائد؟ إليك هذه النصائح
ما الذي تغير؟
إذا مُنع من ذلك، تثور ثائرته ويُرى الغضب في عينيه وصوته وتعبيرات وجهه وحركة جسده. هنا نقول للوالدين: الصبر ثم الصبر ثم الصبر، فهذه وصية الأنبياء، لا تغضب لا تغضب لا تغضب.
عندما يصل الطفل إلى هذه المرحلة ويبدأ في الغضب والعناد والمشاكسة، تنهال الاتهامات من الوالدين للجد والجدة بالتدليل والحماية الزائدة للطفل، وإذا لم يكن للجد والجدة دور في عملية التربية، يتبادل الزوجان الاتهامات أيهما كان أكثر تدليلًا لطفله.
اقرأ أيضًا: السنوات الأولى في عمر الطفل كما تراها ماريا منتسوري
التربية فن
حقيقة الأمر، أن هذه الطباع التي بدأت تظهر على الطفل في سن الثالثة، ليست بسبب ذنب اقترفه أحد الأبوين أو الجد أو الجدة، ولكنها تتعلق بفن التربية الذي يفتقده للأسف كثير من الآباء والأمهات في هذا الزمان الذي صارت حركته سريعة والكل مشغول بليلاه حتى عن الأبناء أعز ما نملك.
على سبيل المثال، الطفل يبكي ويصرخ ويحدث ضجيجًا داخل البيت، وعلينا أن نهدئه. من الأطفال من يكتفي بنظرة، وآخر بالصراخ في وجهه، وثالث بمعاقبته بالذهاب بمفرده إلى غرفته لبضع دقائق حتى يعرف الخطأ الذي ارتكبه.
لكننا تناسينا أمرًا مهمًّا للغاية، وهو أن الطفل مجبول ومفطور على حب اللعب والحركة والنشاط؛ لأن بداخله طاقة إن لم تُفرَّغ عبر قنواتها الشرعية -اللعب وممارسة الرياضة- لجأ الطفل إلى الصراخ والبكاء وتخريب الممتلكات داخل البيت.
اقرأ أيضًا: 4 أفضل كتب تربية الأطفال
انشغال الأمهات يعمق المشكلة
لكن هنا تحديدًا، وفي هذه اللحظات، الأم مشغولة بمكالمة هاتفية مع إحدى الصديقات تتحدثان حول حيرتهما: ماذا تطبخان اليوم؟ هل استيقظ أطفالك من النوم أم ما زالوا نائمين؟ ما أسعار الفاكهة والخضراوات في منطقتك؟ لا أعرف ما السر وراء زيادة وزني الأيام الماضية! برأيك هل ما فعلته جارتي معي كان صحيحًا أم أنها تجاوزت في حقي وكان يجب أن أرد ردًّا أقوى من ذلك؟
هكذا تقضي الأمهات أوقاتهن في المكالمات الهاتفية غير عابئات بصراخ أطفالهن وحاجتهم إلى اللعب، لذلك عندما نقدم الإرشادات سواء العامة أو الخاصة في تربية الأطفال، نؤكد على أهمية دور البيت في تربية مشاعر الطفل وتهذيب أخلاقه منذ نعومة أظفاره، فالبيت هو المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل الأخلاق والقيم والمبادئ التي يرغب الوالدان أن يشب عليها.
بعض الأمهات إن لم يكن أكثرهن يرتكبن جرمًا أكبر من ذلك، وهو أن يجلسن أطفالهن الصغار أمام الشاشات بأنواعها سواء أكانت شاشة التليفزيون أم الهاتف النقال، بالساعات من أجل أن تتحدث لصويحباتها دون ضجيج أو ضوضاء، ولكي تنتهي بعد ذلك من أعمال البيت من ترتيب وكنس ومسح وغسل وطبخ وغيرها، كل هذا والطفل الصغير جالس أمام الشاشات بالساعات.
اقرأ أيضًا: أهمية مرحلة رياض الأطفال في بناء شخصية الطفل
لماذا لا نشعر بأبنائنا؟
ما يجب على الأبوين أن يدركاه، أن التربية عملية شاقة ومتعبة، تتطلب منا تفهم نفسية الطفل، وأن نضع أنفسنا مكانه، لكي نشعر بما يشعر به. أستحضر هنا، عندما كنت في المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الثانوية، كان وقت اللعب المفضل لديَّ بين العصر والمغرب أي قبل غروب الشمس وحلول الظلام في قريتنا الصغيرة.
كان هذا وقت تجمع الأصدقاء في ملعب القرية بجوار بيتي مباشرة، حتى إنني عندما أسمع صوتهم أرتدي ملابسي استعدادًا للنزول واللعب معهم، غير أن أبي كان له رأي آخر على الدوام!
كان يرفض نزولي للعب، إذ يجب عليَّ أن أكتب واجباتي أولًا وأن أذاكر دروسي، علمًا بأنني انتهيت على الفور من أحد الدروس، النتيجة تسوء نفسيتي، وأدخل غرفتي، وأقضي هذه الدقائق في ألم نفسي وغضب وحنق على كل من في البيت، لمَ لا وقد منعوني من لعبتي المفضلة كرة القدم.
عندما كبرت وتزوجت ورزقني الله بالولد، وعندما صار في مثل عمري عندما كنت طفلًا، لم أكن لأكرر معه ما تعرَّضت له وأنا صغير، فقد اتفقنا على جدول المذاكرة، مدوَّن به وقت اللعب ووقت المذاكرة ووقت النوم ووقت الاستيقاظ وكل شيء، وبذلك أصبح يعرف ما له وما عليه بنسبة مقبولة.
هذا ما يحتاج إليه الأبناء من الوالدين، أن يشعرا بهم، وأن يحاولا فهم ما يدور في خلدهم، وما يشغل عقلهم وتفكيرهم، لكننا لا نفعل ذلك بسبب الكسل تارة، أو الجهل تارة أخرى، أو الأنانية من بعضنا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.