عند الحديث عن الثورة الفرنسية، غالبًا ما يطغى اسم واحد على الجميع، حتى على الملك لويس السادس عشر نفسه، إنه ماكسيمليان روبسبيار.
وفقًا لكثيرين، يعد روبسبيار زعيمًا مرعبًا لا يرحم، متعطشًا للدماء، في حين يراه آخرون بطلًا أسيء فهمه، حاملًا مشعل العدالة الاجتماعية، وقد تعرض للخيانة من قبل البرجوازية، وهذه الانقسامات الحادة في إرث روبسبيار تحفزنا على استكشاف الرجل ومحاولة معرفة الحقيقة، مع الاعتراف بالمصادر المتحيزة والأساطير المتغيرة التي تعيق فهمنا له.
وُلد روبسبيار لعائلة محترمة في مدينة أراس شمال فرنسا، وسط سلالة من المحامين الذين وضعوا العائلة بين طبقتي النبلاء والبرجوازية، غير أن حياته أخذت منحى مأساويًا في سن مبكرة بوفاة والدته، ثم اختفاء والده، ما جعله يتيمًا، وعلى الرغم من ذلك تلقى دعمًا قويًّا من عائلته الممتدة، وحصل لاحقًا على منحة دراسية مرموقة للدراسة في مدرسة لويس لو غران في باريس، وعند عودته إلى أراس محاميًّا، سرعان ما اكتسب سمعةً بصفته مدافعًا عن المحرومين ومعارضًا للظلم الاجتماعي.
كانت السياسة الفرنسية في أواخر ثمانينيات القرن الثامن عشر تعاني أزمات الديون والنزاعات الضريبية، فحاول الملك لويس السادس عشر فرض ضرائب على الطبقات المتميزة، لكن البرلمانات التي يسيطر عليها النبلاء رفضت ذلك، ما أدى إلى استدعاء مجلس الطبقات الذي لم يكن قد انعقد منذ قرون.
برز روبسبيار واحدًا من ممثلي الطبقة الثالثة عن أرتوا في عام 1789، ممثلًا إحدى أفقر الفئات في أراس، وفي هذه المرحلة، لم يكن معروفًا على نطاق واسع مقارنة بشخصيات ثورية مثل ميرابو ولافاييت.
في يونيو 1789، أعلنت الطبقة الثالثة نفسها الجمعية الوطنية التأسيسية، وبدأت في صياغة أول دستور لفرنسا، وانحاز روبسبير إلى "الوطنيين" الذين سعوا إلى إحداث تغيير ثوري، وعارض محاولات الملكية للاحتفاظ بسيادتها، وكان معارضًا شرسًا لعقوبة الإعدام وللحواجز المالية التي تعيق المشاركة السياسية، مثل ضريبة "المارك الفضي" التي كانت تحدد أهلية الناخبين بناءً على قدرتهم المالية.
وبينما أكسبته مواقفه المتشددة شعبية في باريس، فقد جعلته أيضًا هدفًا للأعداء السياسيين الذين عدوه متطرفًا للغاية، وعلى الرغم من أنه لم يكن يتمتع بنفوذ واسع، فقد نجح في تنفيذ مناورة سياسية مهمة، فاقترح منع أعضاء الجمعية التأسيسية من الترشح للجمعية التشريعية التالية، ما أدى إلى إقصاء مجموعة من خصومه المعتدلين، ولم تكن هذه الخطوة محل ترحيب لدى أعدائه.
بعد الجمعية التأسيسية، واصل روبسبيار تعزيز نفوذه في نادي اليعاقبة الذي بدأ بصفته منظمة داعمة للدستور، لكنه انقسم بعد محاولة الملك الفرار عام 1791، فانسحب المعتدلون لتشكيل نادي الفويان، تاركين اليعاقبة تحت سيطرة المتطرفين مثل روبسبيار، وخلال عام 1792، دخل في صراع مع بريسو في مسألة الحرب مع النمسا، إذ خشي أن تؤدي الحرب إلى تهديد الثورة وتعزيز نفوذ الجنرالات مثل لافاييت.
عندما أُطيح بلويس السادس عشر في أغسطس 1792، لم يكن روبسبيار قائدًا للانتفاضة، لكنه دافع عن أفعال الثوار، وانتُخب عضوًا في الاتفاقية الوطنية الجديدة، وأصبح زعيمًا لجناح الجبل الذي عارض المعتدلين الجيرونديين بقيادة بريسو، وقد شكلت محاكمة وإعدام لويس السادس عشر في أوائل 1793 نقطة صراع شديدة، وعلى الرغم من معارضته السابقة لعقوبة الإعدام، فإنه رأى في إعدام الملك ضرورة لحماية الثورة الفرنسية.
اشتدت الصراعات داخل الاتفاقية مع تصاعد التنافس بين الفصائل المختلفة، فوجد الجبليون، بمن فيهم روبسبيار، ودانتون، ومارا، أنفسهم في مواجهة مع الجيرونديين الذين طالبوا بقمع أشد للمتطرفين، وأدى إعدام عدد من نواب الجيرونديين في منتصف عام 1793 إلى تفاقم الأزمة، لكن روبسبيار لم يكن العقل المدبر الوحيد وراء عمليات الإعدام، لكنه في الواقع، سعى إلى تجنب تنفيذ إعدامات جماعية، مدركًا الحاجة إلى الاعتدال للحفاظ على الاستقرار السياسي.
على عكس الاعتقاد السائد، لم يكن روبسبير طاغية متعطشًا للدماء ولا شيوعيًّا مبكرًا، ولم يكن التزامه بالعدالة الاجتماعية يعني تأييده مصادرة الثروات أو الممتلكات، كما عارض التدابير المتطرفة مثل القانون الزراعي والإلحاد القسري؛ لذا فإن صورة روبسبيار بصفته ديكتاتورًا صُنعت جزئيًا من قبل خصومه -لا سيما بعد وفاته- الذين سعوا إلى تبرئة أنفسهم من فظائع الثورة.
بحلول منتصف عام 1794، بلغ نفوذ روبسبيار ذروته مع ترويجه لـ"عبادة الكائن الأسمى"، وهي محاولة لتوحيد الأمة تحت منظومة أخلاقية مشتركة، غير أن دوره المركزي في هذا الحدث، إضافة إلى إصدار قانون 22 بريريال -الذي سهل الإجراءات القضائية لكنه أدى إلى زيادة الإعدامات- أثار مخاوف خصومه، وفي يوليو 1794، تصاعدت الصراعات الداخلية داخل لجنة السلامة العامة، ما أدى إلى اعتقاله وإعدامه هو وعدد من أنصاره.
بعد وفاته، سعى خصومه، بمن فيهم شخصيات سيئة السمعة مثل فوشيه وتاليان، إلى تصويره بكونه المهندس الوحيد لعهد الديكتاتورية والعنف، ما مكنهم من غسل أيديهم من العنف الثوري، ومع مرور الزمن، نشأت أساطير عدَّة عن روبسبيار، ما جعل فهم دوره الحقيقي أكثر تعقيدًا.
عمل المؤرخون المعاصرون على إعادة تقييم روبسبيار وتقديم صورة أكثر توازنًا، وصدرت أعمال تسلط الضوء على تعقيد معتقداته السياسية، ومواقفه المتنوعة بشأن قضايا المساواة الاجتماعية وحقوق الملكية، وسياق أفعاله داخل العاصفة الثورية، ويؤكد الباحثون أن روبسبيار لم يكن الحاكم المطلق، بل كان جزءًا من ديناميكية جماعية، غالبًا ما واجه مصالح متضاربة وسيطرة محدودة على عدد من التطورات الثورية.
يظل ماكسيمليان روبسبيار إحدى أكثر الشخصيات التاريخية إثارة للجدل، فهو رجل التناقضات، تبنى أفكارًا راديكالية بينما سعى لتحقيق تقدم متزن، ما أدى إلى تبجيله وشيطنته في آنٍ واحد، ويبدو أننا لكي نفهم روبسبيار حقًا، يجب أن نزيل طبقات الأسطورة ونحلل الظروف الصعبة والمعارك الأيديولوجية التي شكلت أفعاله، عندها فقط يمكننا تقدير تعقيدات إرثه والنسيج الأوسع للثورة الفرنسية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.