كان يا مكان في سالف العصر والأوان.
كان هناك ملك يُدْعَى "آزر" عُرِف بقامته القصيرة التي تعطيه مظهراً كطفل في الخامسة عشرة من عمره؛ هذه القامة القصيرة جعلته يحكم بلدته متخفياً عنهم ولهذا السبب كان أهل البلدة لا يعرفون عنه شيئًا عدا الصور المرسومة التي يوزعها حراس القصر عليهم.
حزنه ووحدته جعلاه حادّ الطباع لا يسمح لأيّ شخص بالاقتراب منه..
كل ما يحلم به هو امرأة تحبه رغم هيئته التي كانت تبعث الضحك والاستهزاء في نفس من يراه، وما لا يعرفه الناس أنه يمتلك من الذكاء أشده وأعتاه، قدراته العقلية تفوق الآلاف من جيله أو ممن سبقوه.
وفي مكان آخر تقابلنا فتاة فقيرة تُدعَى "مارليس" وكان عشقها للملك كبير إذ إنها كلّما رأت صورة جديدة له أخذتها لتعلقها على جدار غرفتها الصغيرة..
وقعت في غرام هيبته وجسده فارع الطول، قوته البارزة والواضحة من عضلات يديه ونظرته القوية التي تبعث الاحترام لعقل وقلب كل من يراه كما صَوَّر لهم الرسام ذلك.
حالها لم يختلف كثيراً عن حال الملك فقد كانت نحيلة جداً وضئيلة الجسد، ولم يحظَ وجهها بأيّ شيء جميل..
لا تمتلك من الصفات الأنثوية سوى اسمها فقط، مما جعل من حولها ينعتونها بالمسخ الدميم ففضلت العزلة والوحدة عن الاختلاط الذي يجلب لها الحزن وانعدام الثقة بالنفس.
كانت كفوف "مارليس" تمتلك الحرفية والإبداع في فن التطريز مما جعلها الأولى في مجال عملها حتى ذاع صيتها ووصل إلى جنبات القصر الملكي، فطلبتها رئيسة الخدم لكي تصنع للملك عباءة جديدة.
لم تتصور "مارليس" أنها ستقترب من الملك بتلك الطريقة يوماً فكانت فرحتها عندما علمت أنها ستدنو منه وتراه عن قرب لا تُوصف..
لم تَنَم طيلة تلك الليلة السابقة للقائها بمن هواه قلبها في صمت، ظلت تفكر بهيئته وشأنه الكبير..
وكيف لها أن تتحدث أمامه أو تنحني له بينما عقلها وقلبها بالتأكيد سيفضحان أمرها أمامه وحتى أنها توقعت أن تصاب بالخرس أو الشلل في تلك اللحظة.
ولجت "مارليس" إلى حديقة القصر وعيناها تجوبان الأزهار والأشجار بانبهار..
أخبرتها الخادمة أن الملك يهتم بكل تفصيلة في الحديقة بنفسه، زاد هيامها به لرقة طباعه التي استرسلت الخادمة في الحديث عنها.
طلبتها رئيسة الخدم إلى جناحهم فور وصولها لكي تملي عليها كل تفاصيل عملها الجديد..
انصاعت "مارليس" لها باحترام، أعطتها المقاسات الخاصة بالملك، تفحصتها بعناية، اعتلى وجهها علامات الدهشة والتعجب، فصدح صوتها يقول باستغراب:
- أتلك المقاسات صحيحة!
رفعت الخادمة رأسها بكبرياء، ثم نطقت قائلة بصوت خالٍ من التعبيرات:
- أجل.. هي توجهِي لعملك.
تحركت "مارليس" بعد أن تيقنت أن هنالك خطأ أو ما شابه لكن ما بيدها حيلة ستفعل ما أُمرت به.
ظلت حبيسة أفكارها لفترة قصيرة قبل أن تقرر أن تنهي تلك الحيرة بسؤال الخادمة اللطيفة التي صاحبتها منذ بداية دخولها للقصر عن سر تلك المقاسات..
أخبرتها الخادمة عن حقيقة قامة الملك وعن جنونه الكبير الذي يصل إلى حد قطع رقبة أي شخص يدخل إلى القصر ويفكر بالبوح عما علمه عن هيئة الملك وكنهه.
طاحت كل آمال وأحلام "مارليس" عن صورة ملك قلبها ومالكه عندما تطرّقت للحقيقة العجيبة التي علمتها لتوها عنه..
أكملت الخادمة حديثها مشيدة بالصفات اللطيفة التي يمتلكها الملك "آزر" وعن عذوبة ورقة أخلاقه وكرمه الزائد عن الحد حتى أنهم جميعا أصبحوا يكتمون سره من فرط حبهم وإخلاصهم له.
لم يكن تركيز "مارليس" سليماً في تلك اللحظات، حيث اتخذ الحزن والصدمة طريقهم إلى عقلها بسرعة كبيرة، ولم تكفّ الخادمة عن الإشادة برب عملها.
مرّت الساعات والأيام بطيئة والإحباط يخيم على قلبها، لكنها برغم ذلك انتهت من العباءة بحرفية وإتقان، حتى جاء الوقت للقاء الملك لكي تطمئن على نتاج عملها.
دلفت إلى الجناح الملكي برهبة تعتريها مشاعر كثيرة متضاربة، وجدته يداعب قطته ويحنو عليها بطريقة ترقّ لها القلوب الباردة، تأكدت أن حديث الخادمة عنه صحيح بل ظلمته في الوصف أحيانا!
شرعت في التحدث فقاطعها مسؤول الجناح حينما أخبر الملك بمرض أحد الخدم فطلب منه الأخير زيارة فورية وعاجلة ليطمئن على حاله ويؤمن مطالبه.
ألقى عليها الملك نظرة جانبية وهو يهم بمغادرة الجناح، سأل مسؤول الجناح وهم في طريقهم لزيارة المريض عن تلك الطفلة التي أتوا بها لتصنع له شيئا هاما كعباءته الملكية!
أخبره المسؤول أنها ليست بطفلة، وإنما هي في عمر العشرين لكنها ضئيلة الحجم، رفيعة الوجه كما رآها..
انتاب الملك شعور بالحسرة فحاله لا يختلف عن حالها كثيراً..
شعر أيضاً أن هنالك نقطة مشتركة بينه وبينها علها تستطيع ترجمة مشاعره ووحدته جيداً، لكن افتقارها للجمال جعله ينأى بتفكيره عنها.
توالت الأيام والليالي وما زالت "مارليس" تتردّد يوميا لجناح الملك بحجج واهية في تفاصيل عملها واحتياجها الوهمي للتواجد بجانبه كي تقوم بعملها على أكمل وجه..
انجذبت لشخصيته ورقة قلبه فكانت تحاول البقاء بصحبته أطول وقت ممكن..
كانت تقص عليه الحكايات وهي تعمل كي لا يمل منها، استطاعت أن تصل لإبهاره وسلب عقله..
أصبح لا يستطيع الاستغناء عنها وعن خفة ظلها، وحكاياتها المثيرة للعقل، وتقليدها لكل الشخصيات من حولهم بأسلوب كوميدي.
أضحت "مارليس" جزءاً لا يتجزأ من يوم الملك حتى إنه نسي أمر العباءة برمته، شعر أن الدنيا ابتسمت له بإرسال تلك الفتاة إليه، وتغاضت عيناه عن قباحة وجهها، فباتت بنظره أجمل فتاة رآها على الإطلاق.
شعور متبادل بينهما لأن "مارليس" أيضاً عشقت تواجدها بقربه متناسية أنه ملك البلاد الذي من المفترض عليها أن تعامله برسمية واحترام بالغ..
وكأنهما رفقة منذ سنوات، يتعالى الضحك والمزاح بينهما وأيضاً ثقة الملك أصبحت كبيرة بها حتى صار يأخذ رأيها في كثير من الأمور الهامّة والمصيرية بالنسبة له.
ازدادت ثقة الملك بنفسه كثيراً بفضلها، حمّسته على مواجهة الناس وجهاً لوجه، والخوض في الحياة بكل جرأة لأنه يمتلك الكثير من الأشياء والصفات التي تجعله أعلاهم مقاماً وسلطة وذكاءً مبهرا، أما عن المظاهر فهي أقل الأشياء أهمية.
قصّت عليه قصتها وابتعاد الأصدقاء والأغراب عنها لأنها لا تمتلك الجمال المطلوب لمواجهة زيف عقولهم، لكنها استمرت بالعمل فاحترفت به، وأصبح فن وإتقان كفيها أهم من وجهها وجماله.
وقف على منصة عالية أمام الناس المتجمهرة من أهل البلدة تلبية لطلبه في اجتماع هام جدا، تذكرها وهي تشير إلى صدره قاصدة قلبه قائلة بثقة وإصرار:
- الجمال الحقيقي هنا، أخرجه للعالم أجمع، وكن واثقا بأنك تمتلك ما لا يمتلكه أحد غيرك!
ألقى عليهم خطابا غاية في الكبرياء والثقة، جعلهم يصفقون له بحرارة وحب كبير..
علا هتاف الناس حباً له مشيدين بجميل صنعه معهم طوال سنوات حكمه، وازدهار البلاد بفضل حكمته وذكائه، وبالطبع رقّة أخلاقه وطباعه.
انتهى خطابه بإعلان هام عن زواجه بـ “مارليس" تلك الفتاة التي أسرت قلبه، وجعلته قوياً واثقاً لا يهاب شيئاً سوى فراقه عنها، لتصبح الفتاة التي نعتها من حولها بالمسخ، وابتعد عنها الجميع زوجة الملك حاكمة البلاد بجواره.
تمت بحمد الله
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.