مات أبي

أبي، هو ذلك الجبل الذي يحمي ظهري من غدر الحياة ونوائبها، في خضمها ومعتركها، أحاول جاهدًا أن أكتم ما يثقل كاهلي ويعتري قلبي من الهموم والمنغصات، وفجأة كنتُ أشعر بأن يده تُربِّت على كتفي وتتحسس وجهي، والبسمة تشرق في وجهه كشمس أشرقت بعد ليل حالك السواد.

يتلو في أذني عبارات من التحفيز التي يقشعر لها بدني، ويهتز من وقعها جسمي كالذي يتخبطه الشيطان من المس، فينتشلني من ركام اليأس إلى فسحة الأمل، ومن أزقة القنوط إلى جنة التفاؤل «ما تخفيه يا ولدي أراه بعين قلبي، وإن أصابتك شوكة قد تعترض طريقك، وأنت في الجهة المقابلة من الأرض أحسها في عمق قلبي تنغرس.

وإن تعثرت قدمك بحجر أترنَّح قبل أن تسقط، فكن كالجبل مهما عصفت به الريح لا يهتز، ومهما تساقطت عليه كوارث السماء زادته علوًا ورفعة»

كم أنت عظيم يا أبي، فكيف لا تحس بأوجاعي وأنت كنت أبًا وأخًا لمجتمع كامل، تسري المروءة والشهامة في دمائك، هائجة كالموج الذي لا يهدأ من شدة العواصف، فتفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم وكأن البعيد منهم فلذة كبدك، فتتألم لألم البعيد قبل القريب.

وإذا حلَّ بأحدهم مكروه، أو وقعت قدمه في شباك ما، تصول وتجول، وتقلب الدنيا رأسًا على عقب، معلنًا حالة الاستنفار والطوارئ، حتى ترى العقدة قد حُلَّت، والقدم من عثرتها نجت إلى طريقها وعادت تحث الخطى، أراك هادئ البال والسعادة تغمر قلبك ظاهرة في وجهك وتصرفاتك وكأن الدنيا صارت بين يديك.

وإذا المشكلات والهموم اعترتهم، منها إليك يفرّون، وفي كل أمر أُشكل عليهم، لبابك يقرعون طمعًا في استشارتك أو حكمك، أو تفويضك لإدارة تلك المشكلات ووضع الحلول المناسبة والناجحة، النابعة من رجاحة عقلك، وعمق رؤيتك، ومرونة تعاملك وطرحك التي كانت تلاقي ترحيبًا واسعًا وقبولًا لدى الجميع.

ففي كل قضية عامة وموقف كان حضورك بارزًا، وصوتك له صدى، وبصيرتك ثاقبة، وحدسك لا يخيب، ورأيك هو الصائب، فكم من قلوب كانت من شدة الشحناء مع بعضها تشتعل حقدًا وتفيض كرهًا، كنت أنت لإصلاح ذات بينها الوصفة الناجحة، وبخلطتك البلسمية تشفي عللها، وتجعل من الحقد سرورًا وارتياحًا، ومن الكره حبًا، وكم من أسرة أنقذتها وجمعت شملها وكانت على شفير التفكك نازفة تركض.

وكم من ثغرة كادت أن تهلك أهلها، فكنت أنت كذي القرنين وبزُبَرٍ من الحديد سدّدتها، وكم من جدار للأخوة كان على وشك الانهيار، فكانت جهودك الحثيثة، وخلطتك الخرسانية ذات القوة والمتانة المستخدمة في رأب الصدع، تبقيه ثابتًا، لا يهتز بعدها أبدًا!

كل ذلك وأكثر، هي مناقبك ومآثرك يا أبي، ولكن ماذا الآن؟ دعك من المجتمع الكبير، وانظر إلى قلبي المحترق، وروحي الممزقة، وكياني المحطَّم؛ فبعد رحيلك يا أبي من سيستشعر آهاتي وأنين قلبي؟ وإذا أمواج الهموم تقاذفتني، من سيأتيني بقارب النجاة؟ من سيضيء في الظلام درب حياتي؟ وحين تتوه قدماي في غياهب الصحراء، أي نجم سيرشدني؟

بعد رحيلك يا أبي، أي سحابة ستتقيني من حَرِّ القيظ بظلها، ومن الجفاف بغيثها المنهمر؟ أي شمس ستشرق على روحي لتبدد ظلام الليل وتهزم زمهرير الشتاء وبه تنكّل؟ وإذا الزلازل والمحن حولي تكالبت، وبقوتها ضدِّي توحَّدت، أي جبل سيشد عضدي، وإليه أسند ظهري؟ أي جدار سيحجب عني رؤية جحافل الغم وأعاصير القلق، وأنت تحت الثرى نائم؟ فلا قلعة خلف أسوارها أحتمي، ولا حصنًا في قمته أخفي ضعفي وانكساري، ودموعي، ولا خوذة ودرعًا في ملاحم الزمن يحمي صدري من سهام العدو.

رحيلك يا أبي، جعلني أقف حيث كنت أنت واقفًا لحمايتي، لا أعلم كيف سأثبت أمام مغول العصر وأهزمه كما فعلت أنت، خرجت من هذه الدنيا بجبين أبيض مرفوع الرأس، كل من عرفك أسبل دموع الحزن بحرقة وأسى.

ليتك كنت شخصًا عاديًا، ولم تترك على عاتقنا حملًا ثقيلًا، قد لا نستطيع حمله، والوفاء به، فأثرك الطيب بين الناس له دويّ في الأرض كدوي الرعد في السماء، وبقدر ما يسعدني ذلك الأثر يقلقني باستمرار، فأنا أحمل اسمك الذي هو مصدر فخري واعتزازي، ولن يطيب لي عيش حتى أشرِّفه، وأجعل انتسابي لك حياةً لك بعد مماتك، وإن لم يكن كذلك، فالهواء الذي أستنشقه حرام عليَّ.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

روووووعه كلمات من ذهب
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.