في بيت واحد، استطاع المتنبي أن يختصر معاناة العقلاء وفرح الجهلاء، حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فالإنسان العاقل، بعقله الواسع ورؤيته العميقة، لا يستطيع أن يغضَّ الطرف عن نقائص الحياة وتناقضاتها، حتى وهو يعيش في النعيم. فعقله لا يتركه يستسلم للراحة الكاذبة، بل يرهقه التفكير، ويثقل كاهله الوعي بما حوله.
أما الجاهل، فجهله يصبح له درعًا، يحميه من الإحساس بما يعانيه، فيسعد ولو كان غارقًا في المصائب.
هنا تتجلى المفارقة العجيبة: العقل، الذي يُفترض أن يكون مصدر القوة، يتحول أحيانًا إلى عبء ثقيل. والجهل، الذي نعده عيبًا، قد يصبح راحة لمن لا يدرك حجم مأساته.
المتنبي بهذا البيت لا يدعو إلى الجهل، بل يصور مأساة الإنسان الواعي الذي يرى ما لا يراه الآخرون. فكلما ازداد الإنسان وعيًا، ازدادت مسؤوليته عن الألم الذي يدركه.
وهكذا، يصبح الشقاء رفيق العقل، لا لأنه يختار الحزن، بل لأنه يرى الحقيقة كما هي. في حين يعيش الجاهل في عالمه الصغير، مستمتعًا بوهم السعادة دون أن يشعر بثقل الواقع.
إنه سؤال فلسفي قديم: هل الجهل نعمة؟ أم أن الشقاء في سبيل الحقيقة أفضل من راحة الوهم؟
المتنبي يترك لنا الإجابة مفتوحة، ويدعونا أن نتأمل: هل نريد وعيًا يشقينا أم جهلًا يسعدنا؟
ولعل أعظم ما في العقل أنه -رغم شقائه- لا يقبل إلا أن يرى النور مهما كلفه ذلك.
فالحياة بعين العاقل قد تكون أكثر قسوة، لكنها بلا شك أكثر صدقًا وعمقًا.
ولعلَّ ما يجعل هذا البيت خالدًا هو أنه لا يعبِّر عن لحظة، بل عن حالة إنسانية متكررة في كل زمان.
فالعقل لا يكتفي بما يُقال له، بل يُشكِّك، يُحلِّل، ويبحث عن السبب والمعنى. هو النور الذي يكشف الظلال، لكنه أحيانًا يُرينا ما لا نريد رؤيته. ومع ذلك، يبقى العقل خيار الأحرار، الذين يفضلون الحقيقة المؤلمة على الراحة المزيفة.
فالوعي وإن كان متعبًا، يخلق إنسانًا أكثر نضجًا وقدرة على التحمُّل والتغيير. أما الجهل، فهو نومٌ طويل في حضن الأوهام، لا يوقظه إلا صدمة الحقيقة.
ولهذا، لا عجب أن يشقى العاقل، فالشقاء ثمن النور، والنور قدر النبلاء.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.