بينما آلافُ الكيلومتراتِ تنحشرُ بيننا، كان صعبًا على الشَّرح مهما استفاض، أن يوازيَ نظرةً مباشرةً من عينَينا أيَّامَ كنَّا معًا.. وعلى ذلك، تكدَّستِ الكلماتُ غيرُ المحكيَّةِ في قلبي زمنًا طويلًا، كآلافِ الكتبِ العتيقةِ المرميَّة على رفِّ مكتبةٍ صغيرة، تَسَعُ في أحسنِ الأحوالِ مئةً..
ورغمَ محاولاتي الحثيثة لنطقِها، بقيَ طيفُ ثقلِها يضغطُ على قلبي دومًا، عاصِرًا إيَّاهُ بقوَّةٍ حديديّةٍ بدا لي أنَّها قد تُصدِّعُ جبلًا، أو تقتلعُ حقلًا، أو.. قد تُحدِثُ فيضانًا..
أشكُّ الآن في محاولةِ تلك الكلماتِ خنقِه.. أو هذا ما شعرتُ به يومًا..
كنتُ أستيقظُ كلَّ يومٍ مُرتِّبةً تلك المكتبة بأحسن ما أستطيع، وفي كلِّ يوم كنت أختارُ لها ترتيبًا جديدًا، «أنتَ هنا، وهذا هناك.. ممتاز!» اعتدتُ أن أقول..
لكن كيف كان يمكن لكلِّ ذلك أن يخفِّفَ الحِملَ أصلًا؟! ما زالت آلافُ الكتبِ تقبعُ على رفٍّ واهنٍ ينوءُ تحتَ وطأةِ الثِّقلِ المكوَّمِ فوقه في مكتبةٍ صغيرة، لا تَسَعُ في أحسنِ الأحوالِ مئةً.. ما زالتِ الكلماتُ تُطيحُ بقلبي الذي لم يملك بعدُ الوقتَ الكافي ليَدري.. كيفَ نَجا؟!..
بينما آلافُ الكيلومتراتِ تنحشرُ بيننا، لو سألتني بصوتها الغضِّ الدَّافئ سؤالَها المعتاد «كيف حالكِ؟» ماذا كنت لأجيبَها؟!..
لو كُتِب لي أن أقولَ شيئًا، لم يكُن ليخرُجَ من شفتيَّ سوى كلمتَين اثنتَين «أنا خائفة»..
ولستُ أخاف من هذا الجزءِ من القصَّة.. إنَّ ما يرعبُني حقًّا هو ما يجب عليَّ الإجابة به لاحقًا، فيما لو سألتني عن سببِ خوفي.. أشعرُ برأسي خاويًا فيما لو فكَّرتُ بإجابةٍ لهذا الاستفسارِ البسيط، ودوارٌ عنيدٌ يعتريني راميًا كلَّ كتبِ مكتبتي أرضًا، حيثُ سيجبُ عليَّ إعادةُ ترتيبِها من جديد..
أجل هكذا كانت كلماتي تتبعثرُ كما لو أنَّ إعصارًا مرَّ للتوِّ في الجوار فيما لو أجبرتُ عقلي على إيجادِ أسبابٍ للأشياء..
وبينما آلافُ الكيلومتراتِ تنحشرُ بيننا، تبدو كلماتي تلك أشبهَ بقطرةِ ندىً صغيرة تتبخَّرُ لتصبحَ ضبابًا سديميًّا شبهَ مرئيٍّ في الأفقِ القصيِّ البعيد على مدِّ البصر..
وتغدو بذلكَ أحرفُها أنينًا عميقًا هادئًا يختفي رويدًا في ضجَّة هذا العالم الصَّاخب الفسيح..
وبهذا المعنى، لطالما كانت كلماتي، على عكسِ ما اعتُقِد عنِّي على الدَّوام، تشيحُ بوجهها عنِّي في أكثر أوقاتيَ احتياجًا لها.. فأهيمُ في عالمي باحثةً عن أطيافِها، حالمةً بلمحِها فقط، وعلى الأكثر..
أفكِّر الآن كيفَ يمكن لي شرحُ كلِّ ذلك، بينما آلافُ الكيلومتراتِ تنحشرُ بيننا؟.. يصعبُ حقًّا التفكيرُ في ذلك..
يرنُّ الهاتف، أجيب.. وبينما آلافُ الكيلومتراتِ تنحشرُ بيننا، تسألني صديقتي التي تعيشُ في النِّصف الآخر من العالَم «كيف حالكِ؟»..
ليُردَّ ما يُشبهُ صوتي عادةً.. «أنا بخير، أنا بخيرٍ جدًّا، وأشتاقُ لكِ كثيرًا»..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.