هل تعلم، عزيزي الأب وعزيزتي الأم، أن كلماتك، ونبرة صوتك، وإيماءاتك، حتى تعبيرات وجهك، هي من أهم العوامل التي تسهم في بناء الأساس العاطفي والمعرفي لدى الطفل؟
مع أنَّ الأطفال في الأشهر الأولى لا يستطيعون استخدام الكلمات على نحو فعَّال، لكن التفاعل اللفظي يساعد في تعزيز قدرتهم على استخدام الإشارات غير اللفظية مثل الإيماءات، تعبيرات الوجه، وحركات اليدين. هذه الإشارات تُعبِّر عن مشاعر الطفل وتسهم في تطوير قدراته على التعبير عن نفسه بطرق مختلفة. الحوار بين الطفل والوالدين لا يكون محصورًا في الكلمات فقط، بل يشمل أيضًا ردود الفعل الجسدية والمشاعر التي تنبع من داخل الطفل، ما يعزز من قدرته على فهم نفسه والآخرين.
أهمية التواصل والتحدث مع الطفل منذ لحظة ولادته
ليس هذا فحسب، فالطفل، وإن كان لا يستطيع استخدام الكلمات للتعبير عن مشاعره في الأشهر الأولى من حياته، لكن تأثير الحديث معه يبدأ منذ لحظة ولادته، وهو ما يسهم في بناء علاقة عاطفية سليمة وصحية بينه وبين محيطه.
أحد أهم التأثيرات المباشرة للتحدث مع الطفل منذ ولادته هو تكوين رابطة عاطفية قوية بينه وبين الوالدين أو حتى من يقوم مقامهما، فقد يكون الطفل يتيم الأبوين، فيرعاه جده أو عمه أو خاله. عندما يتحدث الوالدان مع الطفل بصوت دافئ يفيض بمشاعر الحب والحنان والاحتواء؛ يشعر الطفل بالأمان والراحة والقبول والتقدير، ويقبل على الحياة بأمل وتفاؤل.
هذه التفاعلات العاطفية من شأنها أن تسهم في بناء قاعدة قوية من الثقة بين الأبوين من ناحية، والأبناء من ناحية أخرى، فقد يبدأ الطفل في الشعور بأن العالم من حوله آمن ويمكن الاعتماد عليه. وبمرور الوقت، تسهم هذه العلاقة في تحفيز قدرة الطفل على التعبير عن مشاعره بطرق صحية ومتوازنة.
ليس هذا فحسب، بل يمكنك تعويد الطفل، منذ تعلم النطق والكلام، على استخدام الكلمات والمفردات للتعبير عن عواطفه ومشاعره المختلفة.
على سبيل المثال، عندما يبكي الطفل لشعوره بالجوع، دورك هنا ليس مجرد إطعامه فحسب، بل أن تتحدث إليه وتسأله: "حبيبي، هل تشعر بالجوع؟ دعنا نذهب إلى المطبخ ونحضر لك شيئًا تأكله".
عندما يسمع صوتًا مزعجًا أو ضوضاء صاخبة، يمكنك أن تخبره: "يا له من صوت مزعج! لقد أزعجك، حبيبي". وهكذا في مختلف المواقف التي تعبر عن مشاعر الطفل في حياته وتفاعلاته اليومية.
بمرور الوقت، يبدأ الطفل في فهم المشاعر المرتبطة بالكلمات التي يسمعها، إذ يمكن للوالدين استخدام كلمات مثل "سعيد"، "غاضب"، "متضايق"، "حزين"، وغيرها من المفردات العاطفية؛ لتعريف الطفل بحالاته النفسية.
لا شكَّ بأن هذا التفاعل اللفظي يسهم في تنمية الذكاء العاطفي لدى الطفل، فقد يتعلم كيف يفرق بين مشاعره ومشاعر الآخرين، وكيف يُعبِّر عنها بطريقة بنَّاءة ومعبرة في الوقت نفسه.
وهنا أتوجه بحديثي للآباء والأمهات: الفهم المبكر للمشاعر يساعد الطفل على أن يصبح أكثر قدرة على التعامل مع التحديات العاطفية التي يواجهها في حياته اليومية، بل يجعله أكثر قدرة على مواجهتها واتخاذ القرارات السليمة تجاهها.
الكلمات التي نستخدمها للتعبير عن مشاعرنا المختلفة: سعيد، عصبي، غاضب، مسرور، نكد، متعب، مرهق، وغيرها، إذا ما أحسن الوالدان استخدامها للتعريف بحالات المزاج والانفعالات، فإن هذه الكلمات سوف تجد طريقها إلى لسان طفلك عندما يتعلم الكلام.
تقول إحدى الأمهات: "عندما كان طفلي في الروضة، تحديدًا في الخامسة من عمره، كانت لديه معلمة متقلبة المزاج، وهو ما جعل هذه الأم تشعر بالقلق نظرًا لمعاملتها الفظة والعنيفة مع الأطفال. لذلك نقلت طفلها إلى فصل آخر. الملفت في الأمر أنه قبل هذه الخطوة، وفي إحدى المرات، أخبر أمه بأن معلمته كانت اليوم عصبية، لكنه تعامل مع الأمر بصورة جيدة. نعم، لقد أظهر الطفل قدرته على التعبير عن مفهومه لمزاجية المعلمة بشكل ساعده على التعامل مع الأمر جيدً، فلم يشعر بالظلم كثيرًا.
العلاقة بين الكلام وتطور مهارات التواصل الاجتماعي لدى الطفل
بيد أن التحدث مع الطفل لا يقتصر على تنمية مهاراته العاطفية فقط، بل يسهم أيضًا في تنمية مهارات التواصل الاجتماعي لديه.
هذه المهارات مهمة جدًّا للطفل؛ لأنها تمكنه من التفاعل بإيجابية مع الآخرين في المستقبل، سواء كان ذلك في الأسرة أو في المدرسة أو الجامعة أو في المجتمع بوجه عام.
لذلك، كلما تحدث الوالدان مع الطفل أكثر، ازدادت قدرته على فهم التفاعلات الاجتماعية وممارستها بنجاح، والانخراط فيها مع أقرانه وأصدقائه وزملائه.
وما يجب على الوالدين معرفته جيدًا، أن الحديث مع الطفل ليس مجرد وسيلة لتوصيل المعلومات والأوامر والنواهي فحسب، بل هو أيضًا وسيلة للاستجابة لاحتياجاته العاطفية والنفسية.
على سبيل المثال، عندما يشعر الطفل بالحزن أو الغضب، فإن الحديث معه بلغة هادئة ولطيفة من شأنه أن يساعده في تهدئة مشاعره وتنظيمها. يمكن للوالدين أن يقولا للطفل: "أفهم أنك غاضب الآن، لكن دعنا نتحدث عن كيف يمكننا التعامل مع هذا الشعور."
هذه الطريقة في التفاعل تسهم في تعليم الطفل كيفية إدارة مشاعره، وكيفية تحويل مشاعر الغضب أو الإحباط إلى مشاعر إيجابية. وقبل ذلك توصله رسالة مؤداها أن أبي يتفهم مشاعري ويقدرها.
العلاقة بين الكلام وتطور الذكاء العاطفي للطفل
الذكاء العاطفي في أبسط معانيه يعني قدرة الشخص على التعرف على مشاعره وفهمها وإدارتها. هذا الذكاء يبدأ في التكون منذ ولادة الطفل، إذ إن الأطفال الذين يتعرضون لتفاعل لُغَوي وعاطفي مستمر من قبل الوالدين والمحيطين بهم يتعلمون بسرعة كيفية التفاعل مع مشاعرهم.
على سبيل المثال، عندما يشرح الوالدان للطفل ما يشعرون به وكيفية التعامل مع هذه المشاعر، فإنه يصبح قادرًا على تقليد هذه التصرفات وفهم مشاعره أكثر. هذا التطور المبكر في الذكاء العاطفي يساعد الطفل في التواصل مع الآخرين ويجعله قادرًا على إدارة علاقاته الشخصية بشكل ناضج.
ثقة الطفل بنفسه وعلاقة ذلك بالكلام
توجد علاقة قوية وإيجابية بين التفاعل اللفظي وزيادة الثقة بالنفس لدى الطفل. عندما يتحدث الوالدان مع الطفل عن مشاعره وآرائه، فهذا يشعره بأهمية رأيه ويجعله يشعر بأنه مسموع ومعتبَر. مع قدرة الطفل على التعبير عما بداخله عبر الكلمات بمفردات واضحة وجمل مفهومة، تزداد ثقته بنفسه، وينمي لديه مفهوم تقدير الذات، ومن ثم تساعده على مواجهة تحديات الحياة بثقة وقوة أكبر.
اللغة وتعزيز خيال الطفل
التحدث إلى الطفل وسيلة فعالة لتحفيز خياله وإبداعه. فعندما يُعرض على الطفل القصص، والحكايات، والنقاشات حول ما يراه، فإنه يبدأ في استخدام خياله لبناء صور ذهنية وفهم أعمق للعالم من حوله.
هذا النوع من التفاعل يسهم في تنمية قدرات الطفل العقلية والإبداعية، وهو ما يؤثر تأثيرًا إيجابًا على تطوره العاطفي والنفسي على المدى الطويل.
لنعد بالذاكرة إلى الوراء، عندما كنا أطفالًا صغارًا، ونحن نستمتع بالقصص والحكايات التي ترويها لنا الجدة، كان خيالنا يسبح في فضاء آخر، نتخيل أنفسنا بين الحقول، نركب الحصان ونطير به وسط الأراضي الزراعية، وكأننا نعيش في عالم آخر غير عالمنا.
ختامًا، فإن التحدث إلى الطفل منذ لحظة ميلاده يسهم في بناء شخصيته العاطفية والاجتماعية، وتطوير قدراته المعرفية، ويمنحه الأدوات اللازمة لمواجهة تحديات الحياة بشكل أكثر نضجًا ووعيًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.