الغموض ليس قناعًا تخفي به ذاتك، بل هو فن الانتقاء: أن تمنح العالم جزءًا منك وتحتفظ بالباقي لنفسك، إنه الضوء الخافت في الغرفة البعيدة، السؤال الذي لا يجد إجابة، والسراب الذي يلوح لكنه لا يُمسك. في عالم يكره الفراغ، يخشاه، ويسعى لملئه بالكلمات الفارغة، الغامض هو من يجلس مع الصمت كصديق قديم، يراقب السماء دون أن يحاول تفسيرها، ويترك الآخرين يتساءلون عما يدور في رأسه. إنه ليس حضورًا تامًّا ولا غيابًا كاملًا، بل بندولٌ يتأرجح بينهما؛ يمرُّ دون أن يُستهلك، ويظل في الأذهان حتى بعد رحيله.
الوضوح سلعة رخيصة، أما الغموض، فهو القيمة التي لا تُشترى. في زمنٍ يُباع فيه الجميع بالرخيص، كن اللغز الذي لا يجدون له حلًا، القصيدة التي تحتاج ألف قراءة، والذكرى التي تبقى في الأذهان شيئًا كان قريبًا جدًّا من أن يحدث.. لكنه لم يحدث أبدًا.
توجد أشياء نولد بها، وأشياء نختارها، وأشياء تفرضها علينا الحياة كما تفرض الشمسُ سطوعها على عيونٍ لم تطلب النور. الغموضُ للأسف أو لحسن الحظ ليس واحدًا من هذه الثلاثة.. بل هو شيءٌ ينمو معك كظلٍّ يتمدد كلما ازدادت شمس الحياة حرارةً فوق رأسك. بعضنا يُولد به، يلبسه كما يلبس جسده، ويكتنفه كسُحُبٍ ثقيلة تتجمع في داخله دون أن تُمطر أبدًا. وبعضُ آخر يكتسبه مع الوقت كآلية بقاء أو كحائطٍ زجاجي يفصل بينه وبين عالمٍ لا يفهمه إلا بقدر ما يخشاه.
لكن السؤال هنا ليس "لماذا يكون بعض الأشخاص غامضًا؟"، بل "لماذا يجب أن تكون كذلك؟ لماذا لا يجب أن تُسرف في الوضوح، أن تسكب روحك كما تُسكب القهوة أمام شخصٍ قد لا يقدِّر مرارتها؟ ولماذا، من باب الحكمة، يجب أن يكون فيك شيءٌ من البحر، يُرى سطحه بسهولة، لكن أعماقه.. قصةٌ أخرى تمامًا؟
الغموض ليس قناعًا، بل مرآة معتمة
يعتقد بعضنا أن الغامضين أشخاصٌ يخفون شيئًا، وأن وراء وجوههم التي لا تكشف شيئًا تكمن أسرارٌ ثقيلة، قصصٌ مريبة، أو حتى نيات لا تُحمد عواقبها. لكن الحقيقة أبسط وأقسى: الغموض ليس بالضرورة إخفاءً لشيء، بل أحيانًا يكون هو الشفافية في أنقى صورها.. لأنك حين تكون غامضًا، لا تعطي إلا بقدر ما يُطلب منك، ولا تُري إلا ما يستحق أن يُرى.
الغامض ليس من يخفي، بل من لا يقدِّم نفسه على طبقٍ بارد للآخرين. إنه لا يهرول ليُفسِّر ذاته، ولا يقف عند كل سؤال ليمنح إجابة. إنه ذلك الذي لا تجد إجابة قاطعة حين تسأل عنه: "كيف هو؟" – ليس لأنه معقد، بل لأنه ببساطة.. لا يمكن تلخيصه في جملة.
الصمت ليس فراغًا.. بل شكلٌ آخرُ من الامتلاء
من يُكثر الحديث عن نفسه، يخسر شيئًا منه في كل كلمة. يفرِّط في روحه كما يُفرِّط بعض السذَّج في أموالهم أمام لاعب ورقٍ محترف. والعالم مملوءٌ بأولئك الذين يسألون ليس لأنهم يريدون أن يعرفوا، بل لأنهم يريدون أن يستهلكوك، أن يجمعوا قطعك كما تُجمع الأحجيات الرخيصة. هؤلاء لا يستحقون أن تمنحهم صورتك كاملة، ولا حتى ظلّك.
الغامض لا يملأ الفراغ بالكلام، بل يترك للآخرين فرصة الشعور بذلك الفراغ. يعرف أن الصمت ليس سلاحًا، لكنه حصن. ليس عزلةً، بل اختيارٌ دقيق لما يُقال وما لا يُقال. إنه من يجعلك تتساءل عن أفكاره، في حين يكتفي هو بالاستمتاع بصمتك العالق بينكما.
السماء لا تجيب… لكنها تُلهم
لماذا ننظر إلى السماء حين نشعر بالحيرة؟ لماذا يجد الضائعون في مجرّاتها نوعًا من الطمأنينة؟ لأن السماء لا تشرح نفسها، ولا تقدم تفسيراتٍ جاهزة لوجودها. لا تقول للمتأملين فيها "أنا هنا لأعطيكم الإجابة"، بل تترك لهم مساحةً واسعة للتيه، لتأمل النجوم التي ماتت منذ آلاف السنين لكن ضوءها لا يزال يُرى… وكأنها تخبرنا: "ليس كل ما تراه موجودًا، وليس كل ما فُقد.. قد اختفى حقًا".
هكذا هو الغامض. شخصٌ بوسعه أن يُخبرك بكل شيء، لكنه يترك لك متعة التيه في تخمينه. ويمكنه أن يُعطيك الإجابة، لكنه يترك لك رحلة البحث عنها. وحين تظن أنك أخيرًا فهمته، يفتح نافذة أخرى لعالمٍ لم تكن تعرف بوجوده فيه.
لا تكن مائدة مفتوحة… بل كن وجبة نادرة
الوضوح سلعةٌ رخيصة في زمنٍ يتسابق فيه الجميع على عرض أنفسهم على الأرصفة. كل شخصٍ يُحدِّثك عن ماضيه، عن مشاعره، عن أدق تفاصيل يومه كأنه يوزع منشوراتٍ إعلانية لا قيمة لها. العاديون يمنحون أنفسهم بلا حساب، حتى لا يبقى منهم شيء سوى شظايا أفكارٍ استُهلكت حتى الملل.
أما الغامض، فهو ذلك الذي لا تستطيع أن تحصل منه على كل شيء دفعة واحدة. تحتاج إلى وقت، إلى صبر، إلى إدراكٍ بأن ثمة دومًا طبقة أخرى تحت السطح. هو ليس تلك اللوحة البسيطة التي تفهمها بنظرة، بل ذلك العمل الفني الذي تعود إليه مرارًا، وكل مرة ترى فيه شيئًا لم تلحظه من قبل.
الغموض ليس موضة، وليس تكتيكًا نفسيًّا، بل هو ضرورة. في عالمٍ يلتهم الخصوصية كما تلتهم النار الورق، أن تكون غامضًا يعني أن تمتلك نفسك، ألّا تكون مادةً خامًا لأي شخصٍ يريد أن يقرأك ثم يُلقيك جانبًا. وأن تكون غامضًا يعني أن تترك أثرًا دون أن تشرح نفسك، وأن تكون السؤال الذي يبقى في أذهان الآخرين… حتى بعد رحيلك.
فلماذا يجب أن تكون كتابًا مفتوحًا، في حين يمكنك أن تكون سماءً لا تنتهي!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.