لماذا نرتدي قناع الشر؟

قد يعتقد المرء في لحظة من الزمن أن الشر في حقيقة الأمر يكمن في جوهر الإنسان نفسه، لكن هذا الاعتقاد لا يزيح عن الواقع بقية الفرضيات التي قد تشرح وجود الشر واستمراره. لقد أصبحت تراودني أسئلة من قبيل: ماذا لو أن الشر نسبي؟

ماذا لو أن الشر ليس إلا نتاج تفاعل الفرد مع الآخر؟ فأنا لا أظن أن ذلك الشخص المعزول عن العالم داخل جزيرة خاوية من الأرواح ستخالجه أفكار شريرة، ويبدي نية إيذاء شيء ما، فليس هنالك ما يدفعه لإبداء هكذا نية، ولكن ما أن يحدث تفاعل مع عقل واعٍ آخر تصبح كل الاحتمالات واردة، وترتفع حظوظ الشر في الظهور نتيجة لذلك التفاعل الاجتماعي.

عزيزي، إنني عندما أنظر إلى المرآة لا أرى نفسي، ولكنني أرى طيفًا صنعه العالم، فهذا الشخص الذي أنا عليه اليوم لم أبدعه بيدي، ولكن يد العالم الخارجي هي التي أبدعته، إنها العمليات الاجتماعية المعقدة، ومخالطة الأرواح الأخرى والتجارب المتنوعة والمواقف المستفزة والتفاصيل هي من صنعت هذا الوجه الذي لا أعرفه عندما أنظر في المرآة.

نعم إن هذه الحياة المركبة هي التي تصنع عقولًا مركبة تملؤها التجاعيد وتستنزفها الشوائب والنواقص والعقد؛ ولذلك يا عزيزي فإنك عندما تغادر منزلك صباحًا لتلاقي بقية النتائج العبثية من بني جنسك فأنت لا تغادره حقًّا، لا أحد يفعل، إنما هو مجرد طيف لك، نسخة حقيرة وصورة مشوهة منك، أوجدتها كيمياء المجتمع، أما جانبك الأصلي فهو أنقى بكثير مما أنت عليه اليوم. كان العالم ليكون مكانًا أفضل لو أننا استطعنا أن نبقي عقولنا عذراء، ولكن الغريزة حالت دون وقوع ذلك.

لكن يا عزيزي، هل يمكن للإنسان أن يبقى مجرد أثر لما حوله دون أن يكون له دور في تكوين ذاته؟ أليس في أعماقنا جذور لا تطالها يد العالم، جذور تبقى صامدة على الرغم من كل التغيرات والتفاعلات؟ قد لا يكون الشر نتيجة بقدر ما يكون اختيارًا، قرار يُتخذ حين تتصارع دواخلنا بين ما نحن عليه وما يريدنا الآخرون أن نكون.

إننا نحمل داخلنا احتمالات لا نهائية، تتأرجح بين النقاء والتلوث، بين العفوية والتكلف، بين البراءة والفساد. لكن، إن كان العالم هو من صنع هذا الوجه الذي لا تعرفه، فمن صنع العالم نفسه؟ أليس هو تراكم اختيارات الأفراد وتأثيرهم في بعضهم بعضًا؟ ربما الشر ليس كيانًا مستقلًّا، بل هو نتيجة انزلاقنا في دوامة التفاعل، فيُعاد تشكيلنا باستمرار وفقًا لما نراه ونعيشه ونختبره.

إنها لعبة التكيف، يا فريدريك، لعبة لا ترحم من يحاول الاحتفاظ بصورته الأصلية. كل صباح نرتدي قناعًا مختلفًا، نتقمص دورًا فرضته الظروف، نتلون بلون الجموع، لكننا في المساء، عندما نعود إلى وحدتنا، نبحث عبثًا عن أنفسنا الحقيقية، تلك التي كنا عليها قبل أن يطبع العالم بصماته على أرواحنا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة