إذا تأملتَ العبادات في الإسلام، ستجدها منظومة متكاملة: الصلاة عماد الدين، الزكاة طهارة المال، الحج لقاء تنقية الروح، والصيام مدرسة الإرادة. ولكن، يوجد شيءٌ مختلفٌ في رمضان، شيءٌ يجعله أكثر من مجرد شعيرة يؤديها الناس التزامًا بالنصوص الشرعية، وهنا يحضرنا سؤال: لماذا رمضان محتلف في مصر؟ أو بصيغة أخرى: رمضان في مصر حاجة تانية.
مشاهد تدغدغ القلوب والأرواح: ربما في مصر فقط
في أحد الأحياء الشعبية، يستيقظ الطفل "عمر" قبل الفجر، عيناه نصف نائمتين، لكنه مصرٌّ على أن يكون مثل الكبار في أول يوم صيام له. والدته تعد له السحور، وجدُّه يربت على كتفه مشجعًا: "ستتذكر هذا اليوم طيلة حياتك". وعند أذان المغرب، حين يضع التمرة في فمه، يشعر بسعادة غامرة كأنه أنجز مهمة عظيمة.
مشهد آخر، في زاوية أحد المساجد العتيقة، يجلس رجل مسنٌّ يتذكر أولى ليالي رمضان قبل خمسين عامًا، حين كان يهرع مع أصدقائه لحجز أماكنهم في الصف الأول لصلاة التراويح. صوت الإمام ما زال محفورًا في ذاكرته، ونسائم رمضان تثير في قلبه الحنين والخشوع.
هذه المشاهد وغيرها تقول إن رمضان مصر مختلف..
فرمضان ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل حالة روحية واجتماعية تتغلغل في تفاصيل الحياة. ويلتزم الناس بهذه الشعيرة بدرجة تفوق غيرها من العبادات، ليس فقط إيمانًا، بل لأن الأجواء نفسها تفرض هذا الالتزام. فهل الأمر مرتبط بالروحانيات فقط، أم يوجد بُعد آخر يمكننا أن نستفيد منه في مجالات أخرى؟
لماذا في مصر رمضان مختلف؟
شيء غريب يحدث في مصر مع قدوم رمضان، كأن المدينة تُغير جلدها وتلبس ثوبًا من نور. ليس مجرد شهر صيام، بل احتفال شعبي، مهرجان روحي، مراسم اجتماعية تتوارثه الأجيال. حتى الهواء يبدو مختلفًا، وكأنه يحمل نكهة خاصة لا تجدها في أي وقت آخر من العام.
"إنني لا أُبالغ حين أقول إن رمضان في مصر يشبه كائنًا حيًّا، له نبضه وإيقاعه وروحه الخاصة" – هكذا وصف المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين رمضان في مصر في القرن التاسع عشر، وكأن الزمان لم يغيِّر شيئًا.
إذا كنت في مصر في رمضان، فأنت لا تصوم وحدك، بل تصوم المدينة معك! من أصغر الأزقة في الحارات القديمة، حيث الأطفال يلهثون فرحًا بالفوانيس، إلى أكبر الميادين التي تتلألأ بأنوار الزينة. البيوت تُشع دفئًا، والموائد تُمد في الشوارع للفقراء قبل الأغنياء، وكأن الناس جميعًا صاروا عائلة واحدة.
في دراسة اجتماعية أجراها المركز القومي للبحوث في مصر، تبيَّن أن معدل التكافل الاجتماعي والتبرعات يرتفع بنسبة تتجاوز 70% خلال شهر رمضان؛ ما يظهر تحوُّل الشهر إلى ظاهرة اجتماعية تتجاوز البعد الديني.
ثم هناك ذلك المشهد الذي لا تخطئه عين: المساجد التي قد تكون شبه فارغة في بقية العام، تفيض بالمصلين في التراويح، وصفوفهم تمتد إلى الشوارع، حتى أولئك الذين لا يُعرف عنهم التدين، تجدهم يحرصون على صلاة الفجر فجأة! أهو تأثير الشهر، أم أن للبيئة دورًا لا يمكن إنكاره؟
إنه مزيج من العادة، والتقاليد، والجاذبية النفسية التي تجعل رمضان في مصر حالة فريدة، فتمتزج الروحانيات بالفرح، ويصبح الالتزام جزءًا من النسيج الاجتماعي، فلا تشعر أنه فرضٌ، بل احتفال يُنتظر بشوق.
ولعل هذا هو الدرس الأكبر الذي يمنحه لنا رمضان في مصر: حين يتحوَّل الالتزام إلى عادة جماعية، يصبح متعة لا عبئًا.
رمضان.. عندما يصبح الالتزام متعة
في كل عام، مع رؤية الهلال، تتغير مصر بالكامل:
الشوارع تتزين بالفوانيس والزينة الملونة.
الموائد تلتف حولها العائلات كما لم يحدث طوال العام.
صوت القرآن يملأ الأجواء من المقاهي والمحلات.
عند أذان المغرب، تمتد صفوف المصلين في المسجد، تتداخل تكبيراتهم مع أصداء الأذان، وتمتزج رائحة التمر والقهوة في الهواء، كأن الزمن توقف ليجمع الأرواح في حضرة واحدة.
في صلاة التراويح، تتراصُّ الأكتاف، وتسري في النفوس رهبة ممزوجة بأُلفة نادرة، فتشعر وكأن الجميع خُلقوا لهذه اللحظة تحديدًا.
هذه الأجواء تجعل الصيام أكثر سهولة، بل تجعله تجربة ممتعة. فالمسألة ليست مجرد عبادة فردية، بل تجربة جماعية تُغري النفس بالتفاعل معها. وهنا يكمن السؤال: ماذا لو تعاملنا مع سائر العبادات والواجبات الحياتية بهذا الأسلوب نفسه؟
التقاليد والجاذبية النفسية.. لماذا يلتزم الناس أكثر برمضان؟
شعائر الإسلام متعددة، من صلاة وزكاة وحج وصوم، وقد تجد كثيرين لا يلتزم بسائر الشعائر، لكن لماذا في رمضان الوضع مختلف؟ الأغلب يصومون، حتى لو لم يكن ملتزمًا بغيرها من شعائر وعبادات قد تكون أسهل وأخف!
يجيبنا عن هذا التساؤل علم النفس ويقول: إن الإنسان أكثر استعدادًا للالتزام عندما توجد بيئة محفزة وداعمة. إذا ارتبط الفعل بشيءٍ ممتع أو محفز؛ زادت فرصة المواظبة عليه. وهذا ما يحدث في رمضان:
- الأجواء المختلفة: كل شيء يتغير؛ ما يجعل الناس أكثر تقبلًا للصيام.
- الدعم الاجتماعي: الجميع صائم، الجميع يتحدث عن رمضان؛ ما يولد شعورًا بالانتماء.
- التغيير السلوكي العام: حتى غير الملتزمين دينيًا يجدون أنفسهم مدفوعين للصلاة والذكر بفعل الأجواء.
في دراسة نُشرت في مجلة "Psychological Science"، وجد الباحثون أن السلوكيات الجماعية المرتبطة بشعائر معينة تزيد الشعور بالالتزام والانتماء؛ ما يفسر لماذا يحرص حتى غير المتدينين على ممارسة بعض العادات الرمضانية. وعلم الأعصاب يثبت أن الشعائر المتكررة تؤثر في الدماغ؛ ما يجعل الالتزام بها يبدو أكثر طبيعية بمرور الوقت.
وهذا يقودنا إلى فكرة أعمق: هل يمكننا نقل هذه التجربة إلى مجالات أخرى مثل التعليم والتربية؟
من رمضان إلى الحياة.. كيف نصنع بيئات تحفز الالتزام؟
إذا تأملنا التاريخ والثقافات المختلفة، سنجد أن الالتزام الجماعي لا يقتصر على الدين فقط، بل يظهر في شعائر عدة كالمواسم الاحتفالية والمهرجانات الكبرى وحتى العادات القبلية.
تحدث الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم عن "التضامن الاجتماعي" بكونه القوة الخفية التي تجعل الشعائر الجماعية أكثر تأثيرًا من الممارسات الفردية. من منظور نفسي، يمكن تفسير التزام الناس في رمضان بنظرية "التعزيز الاجتماعي" التي تشير إلى أن الإنسان يكون أكثر ميلًا للامتثال عندما يشعر أنه جزء من جماعة تشاركه نفس السلوك.
إذا كان الناس يلتزمون بالصيام لأن الأجواء مختلفة، فلماذا لا نطبق هذا المنهج في مجالات أخرى؟
التعليم: ماذا لو كانت المدارس أماكن تثير الشغف لا مجرد فصول دراسية جافة؟
العمل: ماذا لو كانت بيئة العمل مكانًا يلهم الموظفين بدلًا من أن يكون مصدرًا للضغط؟
التربية: ماذا لو استبدلنا بالأوامر الجافة أساليب إبداعية تحبب الأبناء في القيم والسلوكيات؟
الرسول ﷺ استخدم هذا المبدأ عندما قال: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا" (رواه البخاري ومسلم). فالتيسير لا يعني التساهل، بل خلق بيئة تجعل الالتزام أكثر قبولًا.
الدروس المستفادة.. غيِّر الزاوية تتغير النتيجة
رمضان في مصر ليس مجرد شعيرة، بل نموذج عملي لكيفية تحويل الالتزام إلى متعة، فإذا أردنا إحداث تغيير حقيقي في سلوكياتنا، فلننظر للأمور من زوايا غير تقليدية. وكما نجح رمضان في جعل الصيام تجربة محببة، ويمكننا أن نجعل التعلُّم، والعمل، والعبادة أكثر جذبًا وتأثيرًا.
فكثيرون يلتزموون بصيام شهر رمضان الكريم؛ لأن الأجواء مختلفة، والجو العام مشجع على ذلك.
السر ليس في فرض الأمر
رمضان ليس فقط شهرًا في التقويم، بل درس حيٌّ يثبت أن الالتزام ليس فرضًا، بل يمكن أن يكون شغفًا.. إذا عرفنا كيف نصنع الأجواء المناسبة. فهل نستطيع تحويل العمل والتعلم والقيم إلى تجارب تجعل الالتزام بها لذة لا عبئًا؟ الإجابة ليست في النصوص، بل في كيفية عيشها.
مقال يداعب الاحاسيس وجميل جدا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.