إجابةٌ بسيطة سهلة عن سؤال كَثُر تردده على آذاننا ومسامعنا ممن يحيطون بنا من أصدقاء وأقرباء وقراء وعابرين.
لماذا تكتب، وما حصيلة ما كتبت، وما أثر الكتابة فيك؟ وما قيمته بين الناس؟
إن القيمة والأثر هما أكثرُ ما يسعى إليه أغلبُ الكتاب، بل أغلب البشر، أن يُذكر في الدنيا حيًّا، وإن كان بلوغهما صعبًا! فها أنا أحاول جاهدًا كي أبلغَهما بما استطعت إليهما سبيلًا.
أمَّا حصيلة ما كتبت، فلم يكن العائدُ إلا معنويًّا لي حتى يومنا، فمعظم من أعرفهم من الكُتاب خلف غياهب النسيان بعيدًا عن الشهرة والظهور، وقد يكون أكبر عائق في طريق كل كاتب يرى في نفسه الموهبة، بعيدًا عما يتعلق بتنمية موهبته، هو الجانب المادي والعائد المادي من الكتابة، مقابل الجهد المبذول والوقت الذي يقضيه بين دفاتره وأوراقه.
العائد المرجو هو الذي بدوره يساعد بصورةٍ كبيرةٍ في ارتقاء ذائقته ورقي كتاباته وإعطائها جهدًا أكبر ووقتًا أكبر بالبحث والتطوير والقراءة والدراسة وغيرها من الندوات واللقاءات. لكن معظم الكتاب لا يعتمدون في كتاباتهم على العائد المادي بصورة أساسية تقوم عليها حياتهم أو حتى تسهم ولو جزئيًّا في تطوير مهاراتهم في جوانب الكتابة الأدبية، حتى إن بعض الكتاب مضطرًّا قد يعزف عن الكتابة وما يتعلق بها في بعض الأحيان حتى يتفرغ لتوفير ما يساعده على الحياة.
فتجد أغلبهم يكافح في وظائف أخرى، ليستطيع أن يجاهد بها جدب الأدب وقسوة الأيام وصعوبة العيش فى واقع الحياة.
ويوجد من يكافح جنبًا إلى جنب صناعة الكتابة هذه، بصورة تجني له فيما بعد عائدًا ماديًّا يمكِّنهُ من الاعتماد عليه بصورة تدريجية، حتى يصبح صاحب مهنة الكتابة دون مهنة أخرى، فينتج إنتاجًا وفيرًا وجيدًا. لكن عدم القدرة على كل هذا يؤخر كثيرًا من صور الإبداع، ويؤجلها تأجيلًا طويلًا، أو يئدها وينهي حياتها في بداية نشأتها ومطلع عمرها، دون أن تنمو وتزدهر وتثمر ثمارًا شهيةً وطيبة.
اقرأ أيضًا: كيف تحول كتابتك إلى أرباح؟
أنا أكتب لأُشبع رغبتي من الكتابة وفيها، وأفرغ في صفحات كتابي تلكما المشاعر والأفكار اللتين تملآن عليَّ عقلي ووجداني.
بالطبعِ؛ أجدُ لذةً في نظمِ قصيدةٍ مكتملةٍ أو غير مكتملة، ثم أعاود النظم فيها مرارًا وتكرارًا، ثم أعيد صياغة بعض كلماتها، حتى تَعلقَ بروحي كما تعلق قطرات الندى فوق أغصان الشجر، فأتركها كما هي، بصورتها التي أردت لها الظهور، بهيئتها ومشاعرها السعيدة المبهجة كانت أو الحزينة البائسة التي حضرت.
أنثرُ بعضَ الحروف العالقة من مشهدٍ ما من الذكريات التي تُسعدُ الفؤاد حين تعود، أعاود استرجاعها بعقلي، وفي كل مرةٍ يأتيني طيفها مباغتًا، ضحكةُ الطفولة، رفقة الأمس القريبة، وليلة صيفٍ صافيةٍ سعيدةٍ رفقة صحبةٍ الشباب ورفقة الأمس.
لي في كل فقرة تأتي عن الذكريات بهجة وسرور.
قد تكون الكلمةُ دمعةً محبوسة أُسقطها على ورقة مخطوطة.
أو قد تكون الكلمةُ قَطرة غيثٍ سقطت على فؤادي لتحييَ فيه نبتة الحنين العطشى بروحي.
وقد تكون الكلمة خلاصًا من الذكريات التي تتعاقب على عقلي لترهقني دون جواب.
وقد تكون مجرد رسالةٍ عالقةٍ بالخيال لم تُرسل بعد، خاطرة كانت تهمس في أذني فأردت أن يسمعها غيري، علَّها تأتي لروحه بطمأنينة ما، أو تسقي عطشًا ما بداخله، أو لا تكون!
أو قد تكون الكلمة حديثًا صامتًا بين جنبات نفسي ونفسي، وما أردت له الظهور أمام أعين القراء علانيةً، ولكن سطوره خدعتني في معانيها التي بين السطور، وغالبت الظهور على البقاء خَفية.
اقرأ أيضًا: نصائح للمبتدئين لتطوير مهارات الكتابة
أكتبُ كي تهدأ ثورة التيه التي ما زلت فيها أهيم بين جوانب ذكرياتي العالقة، أو لَيذهبَ السهد عن ليلي ويروح عنه ما يؤرق صحوهُ ومنامه.
أكتب عن وحدة الفكر في حضرة الجمع، عن رأيي الذي لم يحالفه النطقُ، عن شجنٍ يسكنُ الساعات من نومي ويسكنها بعيدًا عن طمأنينتها، عن خيال أحببتُ رسمه ووصفه على طريقتي، عن لهفة الشوق، وحنين الغد والأمسِ، عن رغبة النفس في تكلُّفِها، عن تعاطفها أو تخوفها، عن حاجة في نفسي فأكتبها نظمًا في قصيدٍ يُعرِّفُها أو بين السطور في خاطرةٍ وأنثرها.
أقرأ لكثير ممن أتابعهم، وأغلبهم وإن لم يكن كلهم أصحاب أقلام مبدعة بحق، فمنهم القاصُّ والراوي والشاعر والناثرُ وصاحبُ الفكر وصاحب المشاعر، ويوجد من يجمع بين كل الفئات معًا، أو بعض منها.
ولكن يوجد البعض منهم، لهم في كتاباتهم رونق خاص ومذاق رائع مختلف، يحركُ مشاعرك بين سطوره، مع كل حرف تقرأه وبعد كل جملة تتعقب معانيها فترى في نفسك أنها تعبرُ عما يعتريك، كيف لك أن تَعبُر تلك الحروف، التي حركت دموعك في أحزانها الدفينة بين السطور، عن بهجة روحك حين تقرأها، حين تكررها، حين تحاول رسمها وتفصيل ما فيها بعيدًا عنك، إلا إنها قد غلبتك في حلاوة نظمها وترسيم حدودها فأصابت فيك عن عمد فهم معانيها دون حاجة إلى قاموس وتفسير، وتعليل لأسبابها.
اقرأ أيضًا: تاريخ الكتابة ونشأتها وأصل الكتابة عند العرب
رسالة حبٍّ أتركها في أواخر هذا العام لكل أولئك المبدعين الذين أسعدتنا حروفهم، وأودعت في قلوبنا ولو قليلًا من بذور الأمل وقطرات البهجة.
«أسعد الله قلوبكم كما أسعدتمونا بحروفكم».
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.