هل تتخيل أن هناك مكانًا على هذه الأرض لا يُسمح للرجال بدخوله؟ لا نتحدث هنا عن قصة خيالية أو رواية من نسج الخيال، بل عن قرية حقيقية واقعة في قلب كينيا، تديرها النساء، وتعيش فيها النساء فقط، وفق قوانين وضعنها بأيديهن، بعيدًا عن أعراف قاسية، وبعيدًا عن أي سلطة ذكورية. اسمها «أوموجا»، ومعناها بلغة السواحيلية «الوحدة»، لكن وحدتهن ليست انعزالًا، بل كانت ولادة جديدة من رحم الألم.
البدايات.. حين يتحوّل الجرح إلى شرارة
القرية لم تأتِ صدفة، ولم تولد بسهولة. البداية تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، حين كانت «ريبيكا لولوسولي»، وهي امرأة من قبيلة السامبورو، تعيش مثلها مثل كثير من نساء قريتها حياة مملوءة بالظلم والصمت. تقاليد صارمة تضع المرأة دومًا في الصف الثاني، عنف تُغمض عنه الأعين، وكأن صوت المرأة لا يُحسب له حساب.
لكن ريبيكا لم تكن ممن يستسلمن. بعد أن عانت بنفسها، واتحدت مع نساء مررن بتجارب مشابهة، طرحت سؤالًا بسيطًا لكنه مصيري: لماذا ننتظر أن يغيِّر أحدهم حياتنا؟ لماذا لا نعيد كتابة قصتنا بأنفسنا؟
وبهذا السؤال، بدأت النواة الأولى لقرية أوموجا. قرية صغيرة، لكنها فكرة كبيرة جدًّا.
قوانين أوموجا.. الأرض التي تُصنع فيها القواعد
القاعدة الأساسية في أوموجا واضحة جدًّا: لا رجال هنا. فقط النساء، وأطفالهن. النساء هن الحاكمات، وهن من يُدِرن كل شيء، من القرارات اليومية إلى مستقبل القرية بالكامل.
لكن اللافت أن القرية ليست مكانًا معاديًا للرجال كما قد يظن البعض، بل هي ببساطة مساحة آمنة للنساء اللواتي عانين التهميش أو العنف أو الظلم، وأرَدْن أن يبدأن من جديد.
أما الأطفال الذكور، فيبقون مع أمهاتهم حتى سن معينة، عادةً مع اقترابهم من سن البلوغ. بعدها، يُطلب منهم مغادرة القرية، ليس لأنهم مرفوضون، بل لأن فلسفة القرية قائمة على بقاء المساحة للنساء اللواتي يحتجن هذا الأمان بعيدًا عن السلطة الذكورية التقليدية. وغالبًا يُشجَّع الفتيان على الاعتماد على أنفسهم، أو الذهاب للعيش مع أقاربهم خارج القرية.
أما الزواج، فلا تمنع القرية نساءها من الزواج أو تكوين أسرة. بعض النساء المتزوجات يلجأن إلى أوموجا هربًا من زيجات قاسية، وبعضهن يُفضلن البقاء دون زواج حفاظًا على استقلاليتهن. الأمر متروك لكل امرأة لتقرر مصيرها بنفسها.
من أين تأتي قوتهن؟ كيف يعشن؟
قد تظن أن الحياة بلا رجال تعني صعوبات مالية أو افتقارًا للمعيل، لكن نساء أوموجا أثبتن العكس تمامًا. بأيديهن، حوَّلن قريتهن إلى نموذج اقتصادي متكامل. يُتقنَّ صناعة الحُلي التقليدية من الخرز، تلك التي تعكس ثقافتهن وتُباع للسياح والزوار، لتكون مصدر دخل ثابت لهن.
ولم يكتفين بذلك، بل حوَّلن القرية نفسها إلى معلم سياحي، يأتيه الناس لا ليشتروا فقط، بل ليستمعوا إلى قصص النساء، ويروا كيف يمكن لحفنة من الإرادة أن تقلب مصيرًا كاملًا.
تحديات لا تنتهي
لم يكن تأسيس أوموجا سهلًا. في البداية، قوبلت القرية بمقاومة شديدة من بعض الرجال في القبائل المجاورة. وصلت التهديدات لدرجة الاعتداءات أحيانًا، وكثيرون رأوا أن قيام مجتمع نسائي مستقل هو تهديد مباشر لهم. لكن النساء تمسكن بوحدتهن، ودافعن عن قريتهن بكل شجاعة.
وبمرور السنوات، تغيَّر المشهد. البعض بدأ يحترم هذا النموذج، والبعض الآخر وجد فيه انعكاسًا لحاجة مجتمعات كثيرة لمراجعة تقاليدها.
أكثر من مجرد قرية
اليوم، أوموجا ليست مجرد مكان يعيش فيه النساء، بل أصبحت رمزًا عالميًا للتمكين، للأمل، ولقدرة الإنسان -والمرأة تحديدًا- على إعادة كتابة مصيره حين تضيق به الدنيا.
قصتهن تُدرَّس، وتُكتب، وتُلهم الكثيرين حول العالم. لا لأنها قصة مثالية خالية من الصعاب، بل لأنها تُذكِّرنا بأن التغيير لا يأتي بسهولة، لكنه ممكن، دائمًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.