الصباحُ الكئيب ينزفُ ضبابًا أبيض، يزحف صوب المدينة، ليعربد فوق أسوارها البائسة، قطرات الأمل الضائعة تراقص خواء المكان، كل شيء كان يسير نسبيًا في معضلة الزمن، تجد الشقاء المُطلق يقينًا حتميًا في ذاكرة الفقراء، والأغلال الممتدة تخنق كاحلي دون رحمة، ثم تُصفق فوق أديم الأرض الأبيض، وأنا أقطع الكتل الصخرية بمعولي، لقد ماتت أمي، وذوى جسدها الهزيل، وانطفأ نور عينيها، وذاب هيكلها، وتناثر رفاته بين موجات الأثير، بعدما اصطلحت عليها أعاصير المرض والألم.
وببعض الكلمات الرخيصة أخبروني أنها تهذي بسبب الحمى التي ألمت بها، كنت أقف وحيدًا وراء القضبان أقضي العقوبة بسبب جريرة اقترفتها يداي الآثمة، قطعة من الخبز، وقنينة من الدواء، وكان علي أن أهرب مرة أخرى حتى أُلقي عليها النظرة الأخيرة، لكنهم سمحوا لي بعد كثير من الاستجداء بزيارتها.
في مؤخرة المركبة كنت أستدفئ بمعطفي المهترئ، وفي طريقي إلى أمي برفقة بعض رجال الحراسة، والقيود تخنق يديّ، كنت أخطو إلى منزلي بقدمين مُثقلين بأعباء الحزن والألم، والذكريات لا تفتأ تخدش أديم الماضي البعيد، فتهب رياح الصبا، وتبعث معها ليالي الحنين، فأرى أمي وهي تعُد لنا الطعام، وتعمل جاهدة حتى تُشعل النار بابتسامة ساحرة، ونحن نلهو في أمان، ثم تسكب الحساء الحار في آنية الطعام، كانت تعمل ليلًا ونهارًا، حتى تعولنا، كانت أمي سيدة النساء فقيرة، لكنها كانت شامخة كالطود، منيعة كالحصن، إلى أن بدأ السعال يزحف إلى جسدها الهزيل، ويقتات منه، فساءت حالتها.
خرجت ذات يوم أبحث عن طبيب، فلما فحص حالتها أمر بإحضار الدواء على الفور، وقد نفد المال ولم أجد ما أبيعه، فخرجت هائمًا على وجهي والدموع تسح من عيني، فسرقت بعض المال عنوة من أحد المارة، وأحضرت الدواء والطعام، لكنهم تمكنوا من النيل مني، وها هي قدماي ترسفان في القيود التي لا ترحم، وتجتران معهما تعب الأيام، لقد أطلقوا أخيرًا يدي، فدنوت من أمي، وأزحت عنها الرداء البالي، فتبدّى لي وجهها الرقيق، خاشعًا في حضرة الموت الأبدي، تلوح منه ابتسامة باهتة، لقد ماتت أمي دون أن تطيب أنفاسُها بسماع اسمي يُتلى عليها مرة أخرى، ببضع كلمات رطبوا قبرها بعد أن طُمرت في أديم الأرض، وذيلوا اسمها بين عامين، لقد ماتت أمي، ومات معها كل شيء.
جميلة ورائعة
رغم هذا الحزن والألم 👏🌹
رحم الله من كانوا بيننا
صدقت لا يعرف فقد الأحباب
إلا من فقد لنا الله 💔
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.