قد يبدو هذا المصطلح غريبًا بعض الشيء، لكن حين نقترب من فهم المعنى المقصود منه سنجد أن هذا المصطلح هو حقيقي وواقعي.
فما المقصود من التلوث عامة؟ أليس هو الإفساد في الشيء؟ فنحن نقول ماء ملوث أي اختلط بقذارة أو بجرثومة أو بيئة ملوثة، وإذا فسد الجو بأبخرة ضارة أو التربة بأوساخ وملوثات كيميائية.
ومن هنا، كيف يتم تلوث السمع أو البصر أو الفكر؟ ما المادة الملوثة للسمع؟
التلوث السمعي
إن طبيعة الإنسان أنه إذا استمر بسماع صوت ما، فإنه يألفه، ويمر به بعض الوقت، فيصبح هذا الصوت جزءًا من حياته. فحين يقطن المرء في بيت قريب من مطار أو محطة قطار أو شارع عام، ويسمع أصوات هدير المحركات في هذه الأمكنة، يصاب بالأرق وقد لا ينام أيامًا طويلة، ثم لا يلبث أن يعتاد على هذا، وتصبح هذه الأصوات التي كانت مزعجة له مألوفة. وربما لو توقفت فجأة لأثار انتباهه ذلك، وربما استيقظ من النوم لأن تلك الأصوات التي ألفتها أذنه قد أخذت حيزًا في نمطية سمعه الدائم، فإذا ما توقفت، تنبَّهت أذناه إلى أن شيئًا ما يحدث على خلاف ما ألف.
وقد يستغرب من يزور صاحب هذا البيت كيف يستطيع النوم وسط هذا الضجيج، في حين أن القاطن لا يرى في هذا الحال أمرًا غير طبيعي؛ لأنه اعتاد على هذا الأمر.
اقرأ أيضًا: أسباب تلوث البيئة وما يحمله من مخاطر
ومن هنا فإن من اعتاد على سماع أغاني الطرب أو أصوات النشاز يمر به بعض الوقت فيعتاد عليها، وقد يُطرب لسماع أغنية سخيفة اللحن سقيمة الكلمات باردة الأداء. ولننظر اليوم ونرى كم الأغاني الهابطة التي يستسيغها الذوق العام مثل أغاني المغني الشعبي شعبان عبد الرحيم (شعبولة) أو أغاني سعد الصغير.
وقديمًا، في زمن عمالقة الطرب والنغم كنا نرى في أغاني أحمد عدوية فنًّا هابطًا، فصرنا اليوم نراه من أفضل ما يغنى إذا ما قورن بغناء مغنيِّي اليوم.
ترى ما الذي حدث؟ مع أن أحمد عدوية لم يتغير أسلوبه إطلاقًا، فالذي تغير هو أن السيئ حلَّ مكان الجيد، فأصبح الأقل سوءًا هو الجيد. ومن هنا، فإن هبوط الذوق العام يجعل السيئ ينتشر.
ذات يوم حضر المطرب محمد عبد الوهاب لإحياء حفلة له في مدينة حلب، وكان عبد الوهاب قد ذاع صيته في القاهرة وأصبح من أشهر مطربيها. فوجئ في اليوم الأول بأن الحضور في الصالة لا يتجاوز العشرات، فصُدم وهو يسأل صاحب الصالة وقد تأثر كثيرًا كيف لمدينة مثل حلب التي اشتهرت بذوق أهلها، أن يحضر حفله أعداد قليلة؟!
ابتسم صاحب الصالة وقال له: "يا أستاذ، هؤلاء الذين حضروا هم سميعة حلب فقط، وغدًا سترى". وفعلًا، جاء موعد اليوم الثاني ليفاجأ محمد عبد الوهاب بالحضور المذهل الذي ملأ الصالة باكتظاظ. وسبب هذا أن السميعة هم من يقدرون درجة وقدرة صاحب الصوت، فينقلون ذلك لعموم المجتمع الحلبي. وبذلك كانت حلب لا تتقبل أي صوت إلا إن كان غاية في الصنعة والإتقان والتمكن.
اقرأ أيضًا: ما أهمية البيئة في حياتنا؟ وما تأثير التلوث عليها؟
ماذا حدث؟
والآن، السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يحدث في هذا الزمن ليطفو السيئ على السطح ويصبح هو المطلوب والمرغوب؟ الذي حدث هو أن هذا الضخ الموسيقي الكبير من وسائل التواصل السمعية والبصرية التي يستطيع أي إنسان مهما كان مستواه الثقافي والفكري أن يفتح أي إذاعة أو تلفزيون أو يوتيوب، ويستمع أو يُسمع من حوله ما يرغب هو به. وعلى سبيل المثال، فإن أصحاب سيارات النقل العام ووسائط النقل الداخلي في المدن يشغلون أغاني على ذوقهم الموسيقي الخاص ويفرضونه على الركاب. فإذا ما علمنا أن الذوق الموسيقي لمعظمهم هو بدائي ومتخلف، علمنا ما يفرضونه على زبائنهم الركاب من سماع إجباري، فهم يُسهمون في جعل الأذن تألف مع الزمن هذا النوع من الموسيقى المتخلفة والهابطة.
فكثيرًا ما كنا نُجبر على سماع أغانٍ لمطربين شعبيين بموسيقى غاية في السماجة وإيقاعات غاية في البلادة، ونحن مجبرون على هذا؛ لأن ذوق السائق هو كذلك. وأنت عليك أيها الراكب أن تُطرب بالإكراه، فضلًا عن صوت هدير محرك السيارة، فيختلط النغم الهابط بالكلمة الفجة بصوت محرك السيارة ليكون لديك منظومة موسيقية مشوهة تعتاد عليها، وربما مع مرور الوقت تصبح ممن يطلب من السائق أن يسمعك هذا الفن الهابط، لقد اعتادت أذنك على سماع هذه الموسيقى. وهذا ينسحب على كثير من بؤر الحياة كالأمكنة العامة والأسواق وصالات الموسيقى والمقاهي.
لذلك كان العقلاء وأصحاب الذوق يوصون أبناءهم بعدم الاستماع إلى موسيقى سخيفة؛ لأنهم يرون أن ذلك يفسد ذائقتهم السمعية. كان العقلاء لا يستمعون إلا إلى موسيقى عالمية كالسيمفونيات الموسيقية، أو لأصوات أعلام النغم ومطربي الزمن الجميل كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وألحان السنباطي وزكريا أحمد وبليغ حمدي وغيرهم من رواد الموسيقى العربية.
اقرأ أيضًا: مخاطر التلوث الضوضائي وأثره على صحة الإنسان
التلوث البصري
وكذلك هو الحال مع التلوث البصري. فالعين إذا رأت منظرًا ما، ومرَّ عليها بعض الوقت، تألف هذا المنظر سواء أكان جميلًا أم قبيحًا. فإذا كان جميلًا، تسامى ذوق الناظر، وإذا كان قبيحًا، هبط ذوقه. لذلك نرى في البلاد المتحضرة وجود مهندسي الديكور، ومهندسي الحدائق، ومصممي الأزياء، حتى أصبح فيما بعد مهندسو الطعام. ففي بعض المطاعم يوجد أشخاص مهتمون بتقديم أطباق الطعام وفق ذوق وتصميم فريد يجذب ذوق الزبائن، ويحقق لهم المتعة، فضلًا على الطعم ولذته.
إن عمل هؤلاء المهندسين هو تجميل الحياة وإضفاء مسحة من الجمال على المحيط الذي نعيش فيه، لذلك نرى التجدد ونرى رقي الذوق العام في تلك البلدان. وعلى العكس تمامًا، تجد في الدول الفقيرة والمتخلفة، أن هذا الأمر هو آخر اهتمامات الشعوب والحكومات. فإنك لن تجد حديقة منسقة، ولا بيتًا مذوقًا أو بناء مهندسًا بشكل جميل، إذ اعتاد المجتمع على المناظر البائسة كالشوارع المهملة، والأشجار المقطوعة والمحطمة، والأبنية المهدمة، وحاويات القمامة "المتلتلة" بالقاذورات هذا إن وجدت، أو كميات القمامة في مزابل وسط الأحياء السكنية، ولا أحد يكترث لهذا.
حين تعتاد العين على تلك المناظر وتألفها، تصبح أمرًا طبيعيًّا. فإذا ما حضر زائر ولفت نظر أصحاب المكان إلى تلك الصور القبيحة والتلوث البصري، استهجن أهل البلد قول القائل، إذ هم لا يرون القبح الذي هم فيه، وربما نعتوه بأن لديه نظرة متكبرة وفوقية.
وهذا هو الحال عند الشعوب المتخلفة. ربما رأيت مناظر في البيوت أو الشوارع في غاية في القبح هم يرونها أشياء طبيعية ومألوفة. فمثلًا في تلك البلدان، ترى أسلاك الهاتف بالعشرات معلقة على عمود كهربائي، فتتداخل الأسلاك فيما بينها عشوائيًّا. وربما رأيت مطعمًا يحوم فوق طعامه الذباب والحشرات، ولا يكترث لذلك. قد ترى جزارًا يعمل في محل تنبعث منه روائح اللحم الفاسد والدم، ويطوف حوله الذباب والحشرات، وهو غير مكترث ولا تثير قرفه كل هذه المناظر لأنه اعتاد عليها وألفها منذ زمن. وقديمًا قيل: "إن طيب الورد يؤذي أبا الجعل" (الذي يُسمى أيضًا "صرصور الجعل")، إذ يقال: "إن صرصور أبي الجعل أي الخنفساء يموت إذا ما وُضع عليه رائحة طيبة"؛ لأنها ألفت القذارات ولا تستطيع العيش إلا في ذلك الوسط. فالتلوث البصري لا يدركه من اعتاد على رؤية المناظر القبيحة.
وخلاصة القول: إن درجة الوعي تختلف بين شعب وآخر، وبين بلد وآخر. فكلما كان الناس أكثر اطلاعًا على عادات وثقافات الغير، كانوا أكثر إدراكًا لهذه المعاني. فمن يعيش في بلد لم يختلط فيه بغيره، ولم يخرج منه ولم يلتقِ بغيره، لن يجد أمامه خيارات متعددة ليخلق بيئة جميلة ووسطًا جميلًا؛ لأن الخيارات لديه منعدمة أو محدودة. في حين أن من يسافر ويطلع، ويلتقي بثقافات وحضارات وعادات شعوب أخرى، سيجد مساحة واسعة أمامه من خيارات يدخلها إلى طبيعة حياته وأسلوب عيشه.
اقرأ أيضًا: مساوئ السكن في المدن المزدحمة
التلوث الفكري
أما التلوث الفكري فهو مصيبة أدهى وأعظم؛ إذ إن اللوثة الفكرية ستؤثر في سيرورة حياة الإنسان بالكامل، وتجعل منه محدود التفكير ضمن إطار القالب الذي وُضع فيه، حيث لا يسمح له بالتفكير خارج الصندوق.
فمثلًا، في بعض الأحزاب أو الأديان، من ضمن استراتيجيتها أن تجعل من أنصارها مقولبي التفكير بحيث لا يجرؤ المرء على تعدي الأطر التي حدَّدها فكر هذا الحزب أو تلك الديانة، وهذا ما يُسمى اليوم في مصطلحنا الحديث "غسيل الأدمغة".
عندما يعمل أحدهم التفكير في قضية ما ويصطدم بنص من النصوص القطعية أو النصوص المقدسة، يتوقف التفكير تمامًا ولا يستطيع التفكير خارج الصندوق، ما يجعل كل من ينتسب لهذا الحزب أو الدين لا يجرؤ على مجرد التفكير الحر. إن كل من يفكر على نحو حر ومنطقي ربما نعتوه بالزنديق أو العلماني أو اللاديني، وكل من يفكر خارج النمط المألوف يخشونه، ولهذا تجد المجددين في كل العصور يحارَبون، والمفكرين في كل الأمم منبوذين.
كذلك من سيئات التلوث الفكري أن المجتمع يخلد إلى قواعد وثوابت لا يجرؤ أي فرد أو جماعة على الخروج عنها قيد أنملة. فمثلًا المهاتما غاندي مع أنه متنور مثقف وقد درس الحقوق في بريطانيا، مع كل هذا كان يقول (أنا أعبد البقر وسأبقى أدافع عن البقر الذي أعبده.. إنني حين أرى البقر فإني أرى أخًا للإنسان). وهذا هو ما يسمى بالجهل المقدس.
ففي عصور الانحطاط وفي زمن المماليك، انحدر الذوق العام إلى حضيض غير مسبوق. نشأ الشعر الهابط، فصار الأدباء والشعراء يتناولون في نصوصهم المفردات العامية والكلمات السوقية الرخيصة. وأصبحت صناعة الأدب (اللاأدب) هي الرائجة. وأصبح من الطبيعي أن تحتوي قصائد الشعراء على الكلمات القبيحة والاستعارات الفاجرة والصور الخليعة. وقد اعتادت الأذواق على هذا بسبب تكرارها، واستمرأتها الأذواق، وهكذا يبدو التلوث الفكري في المجتمعات حيث تنقلب المفاهيم وتتغير القيم ويسود الفساد في العقول واللوثة في التفكير.
مقال ثرى بمعنى الكلمة
وهذا ما نعانية للأسف
فى واقع أصبح كل شئ فيه
ملوس
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.