70 عامًا مرت على رحيل الشيخ الجليل محمد رفعت مؤسس دولة التلاوة المصرية، ولا يزال قيثارة السماء يتربع فوق هرم قراء القراَن الكريم في العالم لما تمتع به من صوت عزب جعل محبيه يطلقون عليه لقب "سيد القراء"؛ ولد الشيخ محمد رفعت في التاسع من مايو عام 1882 بحي المغربلين بالقاهرة، ومن المفارقات أنه توفي في نفس اليوم والشهر الذي ولد فيه عام 1950؛ ورغم طيلة هذه السنوات التي رحل فيها رفعت عن عالمنا بقى عالقًا في أذهان المسلمين حول العالم بصوته الذي يغرد عبر أثير إذاعة القراَن الكريم قبل أذان المغرب في شهر رمضان الكريم وهو يتلوا اَيات الذكر الحكيم، وفرحة الصائم بفطوره عند سماع صوت سيد القراء وهو يعلوا بالتكبيرات الله أكبر الله أكبر عند الأذان؛ في لقاء خاص مع هناء حسين محمد رفعت حفيدة قيثارة السماء، سردت تفاصيل جديدة عن حياته وتبث بشارة لعشاقه.
عائلته
بدأت هناء حديثها عن أسرة الشيخ حيث رزقه الله سبحانه وتعالى بأربعة أطفال، الأكبر محمد المولود عام 1909 وكان بمثابة سكرتيره الخاص، والثاني أحمد المولود عام 1911 وقد سار على نهج والده حيث حفظ القراَن ودرس القراَءات ونال الإجازة فيها، والطفل الثالث ابنته بهية المولودة في عام 1914، والرابع حسين المولود عام 1920وهو والد ي كما كان هو من يقرأ للشيخ الكتب التي كانت بمكتبة المنزل؛ تطرقت الحفيدة للحديث عن سر تعلقها بالجد.. والدي خصص غرفة في منزلنا القابع في 4 شارع محمد مجدي بمنطقة عابدين، لاستقبال محبي ومريدي الشيخ رفعت، يوم الخميس من كل أسبوع، حيث يجلسون بالقرب من "الجرامافون" يستمعون إلى اَيات الذكر الحكيم بصوت الجد إلى جانب بعض من سيرته العطرة التي جعلتها تتعلق به رغم عدم إدراكها له تربت هناء على عشق قيثارة السماء وتجلى ذلك من خلال نبرات الحزن التي تكاد تسمع معها دقات القلب التي تخفق عند الحديث عن شيخنا الجليل؛ تسرد هناء لنا في تلك الفقرات ما طرأ علي أذنيها من سيرة جدها التي أخبرها بها والدها إلى جانب ما سمعته من محبيه الذين جالسوه.
مشاهد مؤلمة في حياة قيثارة السماء.. وحقيقة المرض الذي افقده بصره
تروي هناء اللحظات الصعبة حياة جدها والتي بدات مبكرًا حيث فقد نظره وهو أبن الثانية بعدما أصابه مرض فشل الأطباء في تشخيصه وتشير حفيدة الشيخ إلى مدى جمال عينيه في صغره قائلة "لقد كانت عيناه جميلتان للغاية مما دفع البعض للحديث أنه فقد نظره بسبب الحسد" لقد كان جدي جميل على قدر جمال صوته؛ الطامة الثانية التي لحقت به فقد الأب حيث توفي والده وهو في التاسعة من عمره وترك له حمل ثقيل، وبات مسؤلًا عن والدته وخالته وأخته وأخيه؛ كما أصيب عام 1943 بمرض "الزغطة" فتوقف عن القراءة لثماني سنوات قبل وفاته، واعتذر عن قبول أي مدد أو عون من ملوك ورؤساء العالم الإسلامي، وقال كلمته المشهورة "إن قارئ القرآن لا يهان".
القراَن ينير بصيرته
وأكملت هناء: على الرغم من حزن جدها محمود رفعت على فقد نجله لبصره في سن صغير إلا إنه كان حريصًا على إدخاله الكُتاب من أجل حفظ القراَن وكان ذلك في الخامسة من عمره عبر كُتاب بشتاك بمسجد فاضل باشا بالسيدة زينت؛ كبر الصغير وحظ القراَن عند بلوغه الحادية عشر، على يد الشيخ محمد حميدة، الذي رأى فيه الموهبة والصوت الحسن وبدأ يرشحه لإحياء الليالي؛ ونال الإجازة على يد الشيخ عبد الفتاح هنيدي صاحب أعلى سند في ذلك الوقت؛ بعد رحيل والده اضطر أن يعمل لإعالة أسرته وبدأ في الرابعة عشر يحيي بعض الحفلات داخل القاهرة قبل أن يذيع صيته وينتقل إلى إحياء الحفلات خارج القاهرة.
صوت من الجنة
لكل قارئ صوته وأدواته التي أنفرد بها عن غيره؛ وتميز شيخنا الجليل بضبط الأحكام على نحو راق جدًا، كما امتاز بالقراءة بأجناس المقامات بمعنى القراءة بأحد شقي المقام إذ لكل مقام جذع وفرع، فكان لا يستمر في المقام طويلا إلا وانتقل إلى مقام آخر وحلق بين أجناس المقامات المختلفة، فيبدأ بمقام ويختتم بمقام، فيسبح بالمستمع في عالم من الروحانيات والأداء المترنم؛ وصفه العديد من عشاقه بالصوت الملائكي وأنه يمتلك مزمار من مزامير داود حيث الخشوع في التلاوة مما يجعل مستمعيه يذبون مع اَيات الذكر الحكيم.
القارئ الوحيد الذي قرأ في دار الأوبرا
تابعت حفيدة قيثارة السماء حديثها لـ"المنصة" أن جدها يعد القارئ الوحيد الذي نال شرف تلاوة القراَن في دار الأوبرا المصرية، حيث انطلقت الإذاعة اللاسلكية المصرية في 31 مايو عام 1943 من دار الأوبرا، وطلب القائمين عليها ترشيح قارئ ليقدم فقرة التلاوة فرشح البرنس محمد علي باشا توفيق، رفعت ليصبح أول قارئ للإذاعة المصرية؛ ومن المواقف الطريفة أن الوقت الذي انطلقت به الإذاعة لم يكن للراديو وجود داخل البيوت المصرية إلا على استحياء فلم يكن لدى صاحب الـ52 عامًا خلفية عن هذا الجهاز وعندما طلب منه القراءة في الإذاعة في البداية رفض خوفًا من أن يتواجد الراديو في أماكن لا يجوزفيها تلاوة القراَن فذهب إلى الظواهري شيخ الأزهر اَنذاك وقال له أفتني فيما جئتك به فطمئنه شيخ الأزهر وقال له لا تخف توكل على الله وسأذهب لأشتري راديو كي أسمعك من خلاله، وافتتح رفعت القراَن في الإذاعة بقوله "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا".
لم يكن محبًا للترحال
أشارت هناء إلى أن رفعت لم يكُن محبًا للترحال، وعللت ذلك رفضه عرضًا كان سيجعله من الأثرياء فبعدما ذاع صيته داخل وخارج مصر جاءه عرض لإحياء شهر رمضان في دولة الهند وقوبل هذا العرض بالرفض وظن الشخص الذي جاء من أجل التفاوض معه أنه رفض طمعًا في المزيد من المال فزاد عرضه فرفض أيضًا حتى وصل العرض إلى 3000 جنيه اَينذاك ولكنه صمم وقال للرسول الهندي تواجدي في مسجد فاضل باشا الصغير وسط أهلي وأحبتي خَيْرٌ من كل هذه الأموال، حاول الموسيقار محمد عبدالوهاب وكان من الأصدقاء المقربين للشيخ إقناعه لقبول العرض حتى إنه عرض عليه مرافقته في رحلته إلى الهند مؤكدًا أن هذا العرض لا يمكن رفضه ولكنه تمسك برأيه.
المال أخر ما يُفكر به
بنبرات حزن على رحيله يعلوها الفخر والاعتزاز بسيرته العطرة تحكي هناء أخر ما كان يفكر به جدي هو المال؛ وتقول في أحد المرات ذهب من أجل إحياء أحد الليالي رفقة بعض الشيوخ وقام وتَلاَ القراَن ثم ذهب إليه صاحب الليلة "الحفلة" ومنح الشيخ مليم بدلًا من أن يمنحه جنيه وهي القيمة المتفق عليها سلفًا، عاد رفعت إلى منزله فوجئ بهذا الشخص يطرق بابه ليلًا ويعتذر له ويمنحه جنيه ويقول له لقد أخطأت دون عمد، ضحك الشيخ للرجل ورفض أن يأخذ الجنيه وقال له لقد قسم الله لي ما منحتني أياه؛ حتى إنه بعد وفاته لم يجدوا في خزينته سوى روشتة علاجية وساعة ومصحف، وكان يقول دائمًا لنجله المال ليس كل شئ عندما اذهب لإحياء ليلة دون أجر أرى أن الله يفتح علي فتح عظيم في إشارة إلى مدى تألقه وإخراج كل ما لديه من إمكانيات.
مواقفه مع العائلة الملكية.. فضل جارته الفقيرة على الملك.. ورفضه صندوق المجوهرات الخاص بالأميرة
تروي هناء رفعت مواقفه مع العائلة الملكية؛ قام جدي بأحياء الثلاث ليالي الخاصة بعزاء الملك فؤاد الأول، وبعد مرور عام طلب القصر الملكي من الشيخ التواجد في إحياء الذكرى السنوية للملك وفي نفس الليلة توفيت أحد النساء الفقيرة التي كانت تقطن بجواره ففضل إحياء العزاء الخاص بها على الذهاب لإحياء ذكرى وفاة الملك فؤاد مما أحزن الملك فاروق ولكن لحبه الشديد لرفعت سامحه؛ تابعت أن الملك فاروق اتصل في أحد المرات فقام أباها بالرد ووعندما علم بأسم المتحدث اهتزوالدي من المفاجأة لكن جدي لم يحرك ساكنًا، سئل الملك أبي هل سياتئ الشيخ إلى المسجد، فرد الشيخ قل له ياحسين إن شاء الله جايين، فعاد الملك السؤال مرة أخرى قل له إذا كان متعب وسيأتي خجلًا منا فلا مشكلة في ذلك، فكان رد رفعت قاطعًا إن شاء الله جايين، تروي حفيدته أن موقف جدها يدل على مدى إحترام وتقدير الملك لجدها؛ واتمت عند مرض الشيخ انتشرت صورة له في مجلة المصور وهو على فراش المرض شاهدتها الأميرة عين الحياة عمة الملك فأخذت صندوق المجوهرات الخاص بها وذهبت إلى الشيخ كي تمنحه له لينفقه على علاجه ولكنه بعزة نفسه المعهودة رفض اخذه ؛ كما رفض عدة عروض من ملوك ورؤساء لعلاجه على نفقتهم وقال جملته الشهيرة قارئ القراَن لا يهان.
المدرس والملهم
ترى حفيدة الشيخ كيف تتلمذ هؤلاء الأساطير على يد الشيخ؛ حيث كان يعد منزله الكائن في 30 شارع يحيى بن زيد بالبغالة بحي السيدة زينب، مزار للعديد من مشايخ الأزهر،وكانت تحرص كوكب الشرق على زيارته بشكل دائم في منزله، كما كانت تحرص على التواجد في مسجد فاضل باشا للاستماع إلى قراءته للقراَن والاستفادة من طريقة نطقه للحروف والكلمات؛ الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب تحدث عن علاقته بالشيخ قائلًا: أنا صديقه المقرب ولكن عندما يتلوا القراَن أصبح خادمًا تحت قدميه؛ يعتبر الشيخ محمد متولي الشعراوي نفسه تلميذًا من تلاميذه يَحْكِي الشعراوي عندما كان يدرس في الأزهر ذهب إلى مسجد فاضل باشا يوم جمعة من أجل رؤية الشيخ رفعت عن قرب والإستماع له ولكنه لم يجد مكان لموطئ قدم داخل المسجد فضطر للرحيل وجاء في الثامنة صباحًا من الجمعة التي تليها من أجل الجلوس في الصفوف الأولى ومشاهدته عن قرب، وأكد الشعراوي أن بصيرة الشيخ رفعت التي منحها إياه ربه رغم فقده لبصره كانت تُنير لكثير من علماء الأزهر معاني موجودة في القراَن كانت غائبة عنهم؛ كما كانت تربط الشيخ علاقة قوية بالفنان نجيب الريحاني، الذي كان يحرص دائمًا على زيارة رفعت في منزله، وظل برفقته بعد المرض الذي اصابه وجعله يتوقف عن التلاوة، بل كان يصطحبه في نزهة بالحنطور ليخفف عنه اَلام المرض، وتقول هناء أن الممثل الكبير كان يبكي عندما يستمع إلى صوت جدا وهو يتلو القراَن، وكان يحرص ألا يفتح ستارة المسرح ويبدأ عرض مسرحياته إلا بعد أن يستمع إلى تلاوة القراَن بصوت قيثارة الماء.
عائلته تمتلك كنزًا من التسجيلات
تقول هناء لدى الإذاعة المصرية 30 ساعة من التسجيلات بصوت الشيخ أغلبها لم تقم الهندسية الصوتية بالإذاعة بالعمل عليها لتواكب عصرنا والتطور التكنولوجي الذي نشهده؛ كما نمتلك ما يوازي التسجيلات التي لدى الإذاعة تحتاج إلى الكثير من الأموال واستديو مجهز بالتكنولوجيا الحديثة كي تظهر للنور.
استعان بالموسيقى الغربية لتعلم المقامات
رغم عدم قدرته على القراءة نظرًا لفقدانه لبصره كما ذكرنا سالفًا إلا أن رفعت كان حريصًا على إقتناء كل ما هو جديد في عالم الكتب، وكان يستعين بأبنائه ليقرأ له أحدهم حتى لا يضطر لإستئجار شخص يقوم بهذا الدور؛ هذا إلى جانب امتلاكه لمكتبة كبيرة من الإسطوانات للسيمفونيات العالمية التي ساعدته بشكل كبير في إتقان فن المقامات التي استخدمها في تطوير فن التلاوة لديه.
كان يستعين بعلم الفلك قبل إتخاذ القرارات المهمة
تروي حفيدة رفعت أنه كان حريصًا على إقتناء الكتب المتخصصة في علم الفلك، حتى إنه كان يستعين بذلك العلم قبل إتخاذ القرارات المهمة والدليل على ذلك عدم السماح لعمتي بالزواج إلا بعد إجراء بعض الحسابات الفلكية.
كيف وصل صوته من المسجد الصغير للجنود في الحرب العالمية الثانية!
كان للشيخ محمد رفعت مكانة عالية في العالم الإسلامي فقامت الإذاعات الغربية الموجهة خلال الحرب العالمية الثانية بإذاعة تسجيلاته من أجل جذب المستمعين في العالم الإسلامي لبرامجها، ومن القصص التي تؤكد مدى تأثر الناس بصوت الشيخ طيار كندي كان يعمل مع القوات البريطانية في الصحراء الغربية خلال الحرب العالمية وكانت مصر تقدم آنذاك بعض التسجيلات للشيخ رفعت في الإذاعة الكندية والبريطانية وكان الطيار الكندي يفتح الراديو بالصدفة فسمع صوت قيثارة السماء يرتل القراَن فإذا به ينبهر بهذا الصوت ويدخل القراَن إلى قلبه فيطلب من إصدقائه مصحف وأي كتب عن الإسلام ومن خلال صوت رفعت دخل الإسلام إلى قلب هذا الطيار وأعلن إسلامه.
فرمان ملكي يحقق حلم رفعت!
كان حلم الشيخ أن يدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة، فمنحه أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي في في عهد الملك فاروق، قطعة أرض بجوار المسجد فقام ببناء مدفنًا، وكان من عادته أن يذهب إلى هذا المدفن كل يوم إثنين ليقرأ أمامه ما تيسر من اَيات الذكر الحكيم وظل على ذلك حتى وفاته.
ما بقي من تراث الشيخ
عندما انتقلنا معها للحديث عن تراث الشيخ صمتت قليلًا ثم تحدثت بحزن شديد قائلة: الكثير من قارئ القراَن العظماء أمثال مصطفى إسماعيل والحصري وغيرهم ستجد لهم الكثير من المقتنيات الشخصية التي باتت تراث لكن الشيخ رفعت مختلف هو أقدم منهم بكثير ولذلك وجدنا صعوبة في تجميع الأشياء الخاصة به فقدنا معظمها في الزالزال الذي ضرب مصر عام 1990، وما تبقى منحنا بعضه إلى مكتبة الإسكندرية ويعرض هناك الاَن، وما تبقى لدينا عبارة عن بعض الرسائل التي منحتكم نسخها منها إلى جانب الإسطوانات التي تحمل التسجيلات الخاصة بالشيخ رفعت والتي قمت أنا وأخي بنسخها على هارد ديسك تمهيدًا لإعادة ضبطها وعرضها على العالم كي يستمتع بصوت الشيخ رفعت.
الصورة ليست للشيخ محمد رفعت
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.