كيف نقرأ بإنتاجية أكبر ([1])
فن القراءة تُعرف بأنها العملية التي يعمل بها الذِّهنُ على حروف مادة مقروءة، دون مساعدة خارجية يرقى بها الذهنُ من خلال قُوَاهُ الذَّاتيةِ، وفي هذه الحالة ينتقل الذِّهن من مرحلة الفهم الأقل إلى مرحلة الفهم الأكثر، وإذا كانت القراءةُ أهمَّ وسيلةٍ لاكتساب المعرفة، وإذا كان اكتسابُ المعرفة أحدَ أهمِّ شروط التَّقدم الحضاري؛ فإن علينا ألا نبخل بأي جهد يتطلبه توطينُ القراءة في حياة طلبة العلم على وجه الخُصوص، وهناك أمور لا بد للطالب من معرفتها؛ لتكون القراءة له بمثابة الطَّعام والشَّراب، ويتمثل عمليًّا بمن يقول: أستثني حياتي من الكتاب، ولا أستثني الكتاب من حياتي ([2])، وكما يقول محمود عباس العقاد: «إنَّ القراءة لم تزل عندنا سُخرةً، يُساق إليها الأكثرون طلبًا لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجُمود»([3])، ولا يكون ذلك إلا بتهيئة بعض السُّبل منها على النحو الآتي:
1. الدَّافع:
زوَّدَ البارئ جل وعلا الإنسان بعدد من القوى الفطرية (الغرائز) التي تدفعه إلى سلوك معيِّن، وترسم له أهدافَه وغاياتِه، من أجل تحقيق توازنه الداخلي، وإعداده للتكيف مع البيئة الخارجية، فإيجاد الدَّافع نحو القراءة من آكد عوامل الاستمرارية نحو المزيد من القراءة والتَّعلم.
2. تكوين عادة القراءة: ([4])
إنَّ معرفة قواعد فنٍّ ما ليست كتكوين عادة، وعندما نتحدث عن امرئ قائلين: إنه ماهر في موضوع ما؛ فإننا لا نعني أنه يعرف قواعد فعل شيء أو صنع شيء، ولكننا نعني أنه يملك العادة على فعل أو صنع ذلك الشيء، وبالطبع فمن الصحيح أنَّ معرفة القواعد يشكل مرونة أكثر أو على الأقل هي شرط لاكتساب المهارة فإنك لا تستطيع اتباع قواعد تجهلها، والبدايات دائمًا شاقَّةٌ، وأشق مراحل الطريق هي المرحلة الأولى، وكثير منا يجد صعوبة بالغة عند البدء في أي عمل، وذلك لأنَّ نتائج جهده في البداية تكون ضعيفة وغير ملموسة.
إنَّ قابليتنا للتعلم، تتحول بفضل مُمارسة القراءة إلى براعة، كما أنَّ التَّكرار والتَّمرين يجعل عادة القراءة نوعًا من الاكتشاف وتنمية العقل، وفيه الكثير من المتعة واللذة، ولقد ثبت أن القراءة تُذكي من الفكر التَّحليلي، وتمكِّننا من أن نُدرك الأشياء والأفكار بمنظور أفضل ([5]).
3. توفير الوقت للقراءة:
إنَّ أكثر من 80% ممن لا يقرأون كتابًا في الشَّهر، يعتذرون بأنه ليس لديهم وقت للقراءة... أعذار كثيرة يُبديها كثير من الناس، والإحساس بالزمن منتج حضاري، فالوقت هو المادة التي صُنعت منها الحياة، وسيكون لكل الذين يُبذِّرون في إنفاقه أن يوجدوا الكثير والكثير من البراهين على حسن تعاملهم معه.
ولو أن واحدًا منا وضع سَجِلًّا كاملًا، يوضح فيه كيفية قضائه لأوقاته؛ لوجد أن نحوًا من 20% من نشاطاته لا يخدم أي هدف، ولا يعود عليه بالنفع، وإني واثق أن تنظيم هذا الجانب وحده من حياتنا، كفيل بأن يوفِّر لنا يوميًّا نصفَ ساعة على الأقل، يمكن أن نستفيد منها في القراءة.
إنَّ المشكلة الأساسية للذين لا يقرأون أنهم لا يملكون أية أهداف أو أولويات، وسيكون مُفيدًا أن نحاول تغيير سلوكنا في التَّعامل مع الوقت، وهذا يحتاج إلى وقت، وعلينا أن نُثابر ولا نيأس.
4. تهيئة جو القراءة:
إنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين إمكانية الفهم والاستيعاب وبين الأجواء والأوضاع التي تجري فيها القراءة، وهناك شروط عدة ينبغي توفيرها من أجل تهيئة الجو المناسب للقراءة؛ منها:
1.يجب أن يكون مكان الدِّراسة مُنظمًا وجميلًا، يبعث على الارتياح والانشراح، وهذا يتوفر بوجود حجرة خاصة بالدِّراسة، ومن الملائم أن يستغرق القارئ الدَّقائق الأخيرة من الدِّراسة في ترتيب المكان والاستعداد للجلسة التالية.
2. بعض الناس لا يهتم بهدوء المكان وانعزاله عن الناس، مما يفقدهم صفاء الذَّهن والقُدرة على التركيز؛ ففقده يعد مشكلة دائمة، وكثيرًا ما نَلهَجُ من شرود الذهن وعدم الإنتاجية؛ لذا فإن مكان الدِّراسة ينبغي أن يكون بعيدًا عن الضوضاء داخل المنزل وخارجه.
3. إن العبرة ليست بكثرة الكتب التي تُقرأ، وإنما بالإنتاجية والثَّمرة التي نقطفها، وهذا يوجب علينا أن نحرص على الاحتفاظ بدرجة من الحيوية والارتياح في أثناء القراءة، فالقراءة المثمرة تستحقُّ منا التَّخطيط والتَّفكير والمثابرة والعناء.
والإنسان متسائل بالفطرة، توَّاق إلى اكتشاف المجهول بالطبيعة، وحين يرتقي في معارج الحضارة؛ يتحوّل لديه كثيرٌ من المعارف العلمية من معطيات ممتعة إلى ضرورات حياة، يتوقف عليها نموُّه الرُّوحي والعقلي والمَهاري؛ من هنا فإن أهداف الناس من وراء القراءة متنوعة، بحسب وضعية القارئ وما يريده من وراء ذلك؛ فظروف الحياة تجعل أهداف القراءة تتفاوت تفاوتًا بعيدًا، وكثير من الناس لا يعرف لماذا يقرأ، ويمكن أن نقول: إن الأهداف العامة لقراءة معظم الناس ثلاثة، هي:
1. القراءة من أجل التَّسلية، وهذه القراءة الأكثر شيوعًا بين الناس، وتُثبت الإحصاءات أنَّ نحوًا من 70% من القراء يتجهون إلى القراءة من أجل التسلية ([6])، والقراءة من هذا النَّوع لا توسع الذهن ولا تحسن الفهم، فهو وهم في مخيلة القارئ فقط، والدليل على ذلك أنك قد تجد أناسًا يقرءون كثيرًا فيما يبدو للناس، وما تتحسن مهاراتهم العقلية ولا نموهم العقلي، بل ما يحصل لديهم ما يسمي بالتشظِّي المعرفي، وذلك لعدم بذلهم جُهدًا يذكر في القراءة.
2. القراءةُ من أجل الاطلاع على معلومات أسلوبٌ يمارسه كثير من النَّاس، والجهد الذي يتطلبه هذا النوع من القراءة محدود أيضًا، وهذه الطَّريقة شائعة جدًّا؛ لأنَّ في عالمنا الإسلامي ظاهرة تجتاح كثيرًا من الناس؛ وهي البحث عن الأسهل، لقد وجدت دائمًا الكتب التي قرئت بشكل واسع جدًّا، وليس بشكل جيد.
3. القراءة من أجل توسيع قاعدة الفهم وتحسين الوعي، وهي أشق أنواع القراءة وأكثرها فائدة، والذين يقرءون من أجل هذا الغرض قلة من الناس؛ وذلك لأن أكثر الناس يعتقدون أن ما يملكون من قدرات ذهنية كاف وجيد، فالقارئ الجيد هو الذي يقوم بنفسه بمجهودات عندما يقرأ فهو يقرأ بمجهود وفعالية.
4. إنَّ القراءة من أجل إنتاج المعرفة، هي تلك القراءة التي تستهدف امتلاك منهج قويم في التعامل مع المعرفة، وتُكسِبُنا عادات فكرية جديدة، وتلك التي تزيد في مرونتنا الذِّهنية.
مستويات القراءة:
أولًا: القراءة الاكتشافية:
لا بد للمرء من أن يغتبط لكثرة ما يرى من الكتب الجديدة في المكتبات، لكن هذا لا يدعو مطلقًا إلى أن نندفع إلى الشراء دون تأمُّلٍ في مدى مناسبة ما نشتريه لنا، فقد يكون الكتاب في حد ذاته جيدًا، لكنك لست من الشَّريحة الموجه إليها.
ونستطيع خلال نصف ساعة أن نصل إلى حكم جيِّد على الكتاب إذا قمنا بالتالي:
1. قراءة مقدمة الكتاب، حيث يكشف كثيرٌ من الكتاب في مقدماتِ كتبِهم عن دوافع التأليف، وأهدافه، والفئة التي يخدمها الكتاب.
2. قراءة فهرس الموضوعات من أجل الاطلاع على موضوعات الكتاب، وأهم من ذلك اكتشافُ المنظور المنطقي للكتاب.
3. الاطلاع على فهرس المصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف في بناء كتابه، حيث إنها تمثل المورد الأساسي لمعلوماته وصياغته.
4. بعض المؤلفين يضع ملخصًا مكثفًا في آخر كل فصل لِما أورده فيه، ومن المفيد قراءة بعض الملخصات لتحسُّس جوهر المادة المعروضة.
5. قراءة بعض صفحات أو فقرات من الكتاب؛ لمعرفة مستوى المعالجة في الكتاب وهذا مهم جدًّا.
ثانيًا: القراءة المحورية
حين يتجه المرء إلى التعمُّق في موضوع بعينه؛ فإنه يكون بحاجة إلى تتبع الكثير من المراجع والكتب المتنوعة؛ للعثور على مادة متجانسة، والكتبُ التي يمكن أن يعود إليها أيُّ باحثٍ نوعان:
النوع الأول: كتب تنتمي إلى الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه الموضوعُ الذي يَبحث فيه، ويمثل هذا النوعُ المصدرَ الأساسي للباحث، فعن طريقه يمكن تكوينُ رؤية جيدة للبنية الأساسية للموضوع، ومع التسليم بالأهمية القصوى لهذا النوع من المراجع، إلا أن الاقتصار عليه يجعل معرفةَ القارئ بموضوعه شبهَ معزولةٍ عن فروع المعرفة الأخرى، ومعظم القراء يُؤثِرُ الاعتمادَ على هذا النوع؛ لسهولة معرفته وحصره.
النوع الثاني: كتب لا تنتمي إلى الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه الموضوعُ الذي نودُّ سَبرَ أغواره، وفائدة هذا النوع من المطالعة أنه يعطينا لونًا من ألوان توحيد المعرفة، وإعادة الربط بين فروعها وأجزائها.
ثالثا: القراءة التَّحليلية:
القراءة التَّحليلية هي المستوى الثَّالث من القراءة، وهي أكثر عُمقًا من المستويين السابقين؛ فهي قراءة كاملة للنص، بل هي قراءة جيدة بأفضل سبيل، وتحتاج إلى عقلية إدمان السؤال والبحث المعرفي، فبعضُ الكتب هي للاختبار والكشف، وأخرى للفهم والاستيعاب، والقليل منها فقط للمضغ والهضم؛ فالقراءة التحليلية هي قراءة للمضغ والهضم كما يقال، فهذه القراءة هي أفضل أُسلوب يُمكن للمرء أن يتبعه في كشف خفايا مضمونِ كتابٍ ما في وقت غير محدد، فهي محاولة للارتقاء بالقارئ إلى أفق الكاتب الذي يَقرأ له، ومحاولة النَّفاذ إلى معرفة شيء من مصادره وخلفيته الثَّقافية، وهذا النَّوع من القراءة هو عماد القراءة بأنواعها، وهو الذي يبني القارئ، ويؤهله تأهيلًا يستطيع معه أن يُميز بين الأمور والحُكم فيها بميزان التَّحقيق والتَّدقيق، وهو الوجه الآخر للتعلم الذَّاتي المستمر، وصِنوُ الدِّراسة على الأساتذة والشُّيوخ؛ نظرًا لأنه يقوم على المواظبة على مُطالعة الكتاب والتَّعمق في دراستها، والبحث عن مخبآت الكُتب وكنوزها([7]).
بل غالبًا لا نستطيع أن نفهم كتابًا لم نقرأه قراءة تحليلية؛ فهي قراءة من أجل الفهم والتفهم، وهذه القراءة كانت تسمى عند السَّابقين بقراءة البحث، كما قال ابن رجب الحنبلي: «ورأيت نُسخة «المستوعب» وقد قرأها عمر بن المنجا على والده قراءةَ بحثٍ، وعليها حواش علقها عنه بخطه»([8])، وتُسمَّى أيضًا بقراءة الضبط والتحصيل، كما قال ياقوت في ترجمة أحمد بن إبراهيم بن محمد السِّجزي أبي نصر، أحد الأدباء الفضلاء؛ قال ياقوت: «قرأ على أبي بكر عبد القاهر، ثم قرأت بخط سلامة بن عياض الكفرطابي النَّحوي ما صورته: وجدت في آخر نُسخة «المقتصد» لعبد القاهر الجرجاني بالرَّيِّ مكتوبًا ما حكايته: قرأ عليَّ الأخ الفقيه أبو نصر أحمد بن إبراهيم بن محمد السِّجزي، أيده الله، هذا الكتاب من أوله إلى آخره قراءة ضبط وتحصيل...»([9]).
رابعًا: القراءة النَّقدية:
إن أفضل قارئ وأفضل مستفيد من الكتب هو القارئ النَّاقد، الذي يعرف كيف يحكم على الكتاب، ويعطيه حقَّه من التقدير، وهذا النوع من القراءة بحاجةٍ ماسَّةٍ لفهم النص، وحسن استيعابه، كما تتطلب الموضوعية والإنصاف في الحكم، وهذه القراءة تستهدف الوقوف على محاكمة بآليات وطرق لنقد المحتوى المقروء؛ فالعلم حفظ وفهم ونقد، وعملية النَّقد مُهمة جدًّا في القراءة، وبدونها لا إنتاج علمي جديد، فالقراءة بلا تفكير ولا نقد ولا محاكمة كالأكل بلا هضم، فهل يستفيد الجسم من طعام لا تهضمه المعدة؟ فالتساهل بالفهم والتأمل وممارسة عملية نقد المقروء إن كان ثمة خلل قد يعتاد صاحبه على الغفلة والتبلد وعدم الاستفادة بما يقرأه، على الرغم من بذل الجهد والوقت في القراءة، والقراءة قد تزود عقولنا بالمعرفة والمعلومات فقط، ولكن التَّفكير فيما نقرأ وإمعان النظر، ونقد ما يستحق أن ينقد، خاصة مع وجود القرائن المدللة على عدم صحة هذا المكتوب هو الذي يجعلنا نملك ما نقرأ، ونخرجه في صورة إبداعية جديدة، وكما قال فرنسيس بيكون: «لا تقرأ للمعارضة والإنكار، والتَّفنيد، ولا للاعتقاد والموافقة، ولا تقرأ لمجرد المحادثة الفارغة، بل اقرأ للتأمل، والتَّبصر، والموزانة، وإمعان النَّظر»([10]).
إنَّ القراءة الفعالة لا تقف فقط عند عملية فهم ما يقوله المؤلف، بل يجب أن تصل إلى مستوى محاكمة ومناقدة للكتاب، والنَّقد الذي نسعى لتنمية مهاراته في باحثِينا هو النَّقد البعيد عن تصيُّد الأخطاء، وإظهار العيوب، والتَّشفِّي من الآخرين، بل نسعى لتنمية مهارات النَّقد البنَّاء، الذي يكون الهدف منه الوصولَ للحق وقَبولَه، مهما اختلف معنا مصدرُه، وتقويم الأخطاء وتطوير الأفكار، والنَّقد يعني إبراز مزايا وعيوب شيء ما؛ فهو ليس مجرد كشف العيوب وأوجُه القصور كما يتصور غالب الناس، ولقد رسخ في أذهان الناس أن التَّفكير النَّقدي عبارة عن نشاط ذهني، يستهدف إبراز النَّقائص والعيوب، ولكن النقد إبراز الإيجابيات وتعزيزها، وكشف النَّقائص ومعالجتها، وعندئذٍ يمكن أن يكون النَّقد موضوعيًّا ونزيهًا وهادفًا([11]).
إنَّ الاهتمام بالتأمل وإمعان النَّظر والتَّدقيق له مردود كبير على القراءة النَّقدية، وإنما تُدرَكُ دقائقُ العلوم بالتأمل، وكما قال الباقلاني: «وجهُ الوقوف على شرف الكلام: أن تتأمل»([12])، وقال الزرنوجي: «وينبغي لطالب العلم أن يكون متأملًا فى جميع الأوقات في دقائق العلوم، ويعتادَ ذلك، فإنما يدرك الدَّقائق بالتَّأمل، فلهذا قيل: تأمل تدرك»([13])، وقال عبد القاهر الجرجاني: «اعلمْ أنك لا تَشْفي العلة ولا تنتهي إِلى ثلَج اليقينِ، حتى تتجاوزَ حدَّ العلمِ بالشيء مُجملًا إلى العلم به مفصَّلًا، وحتَّى لا يُقْنِعَك إلا النظرُ في زواياهُ، والتَّغلغلُ في مَكامِنِهِ، وحتى تكون كمن تتبَّعَ الماءَ حتَّى عرفَ منْبَعَه، وانتهى في البحثِ عن جوهرِ العُود الذي يصنع فيه إِلى أن يعرفَ منبتَه، ومَجرى عُروقِ الشجرِ الذي هو منه»([14]).
وعملية النقد هذه لا تتمُّ إلى بعد طول النَّظر وتكراره([15]) والممارسة العملية؛ فلا يكون دَيدَنُ الباحث في بداياته النَّقدَ والإكثارَ منه، وهو ما قرأ إلا شذرات يسيرة من هذا الفن؛ فبذلك لا يستقيم له علم، ولا يقام له بناء، ولا تثبت له حجة، وهذه مزلَّةٌ قد يقع فيها بعضُ الطُّلاب لذا قال الرَّاغب الأصفاني: «وحقٌّ على مَن هو بصدد تعلُّم علم من العلوم ألا يصغى إلى الاختلافات المشكِّكة والشُّبَه الملتبِسة؛ ما لم يتهذب في قوانينِ ما هو بصدده، لئلَّا تتولد له شبهةٌ تَصرِفُه عن التوجه فيه؛ فيؤدي ذلك به إلى الارتداد...»([16]).
درجاتُ تكوينِ العقليَّةِ الفارقةِ:
1. التَّربية.
2. التَّعليم.
3. التَّطبيق([17]).
وبدون استيفاء هذه الأركان والدرجات مع بعض العلوم المساعدة التي يحتاج إليها، مع قدرة عقلية على الترتيب المنهجي؛ تصبح المعلومات جُزُرًا منعزلةً في ذهن الباحث والباحث، بل قد تأتي القراءة بخلاف مقصدها فتكون وبالًا على صاحبها.
فالعلم في حاجة شديدة إلى جريان الفكر حتى يمُدَّه دائمًا بكل جديد، وإذا انقطع عنه ذلك المورد جمُدَ العلم، وحدثت له المشكلات.
ويلزم طالب العلم أن يكون له شيخ؛ وهو ما يُسمَّى بالأستاذ أو المربِّي، فيكون وسيلة لانتقال المعارف والخبرات المتراكمة إليه، وأن هذا المربِّي هو إنسان أكملته التربية يحاول أن ينقل صورته ونظام أحواله إلى غيره، فإرشاد الأستاذ ركن من أركان بناء العقلية، فلن يكون الباحث عالمًا حتى ولو قرأ كتبًا من الخليج إلى المحيط، حتى يُجازَ من شيوخه وأساتذته.
ولابد للطالب أن يعرف ما وصل إليه العلماء من قبله، حتى يبدأ مما انتهى إليه الآخرون، فيوفر على نفسه وقتًا وجهدًا في بحث ما تم بحثه بالفعل، ولم تعد فائدة من دراسته، ونحن حينَ نُحصِّلُ كلامَ أهلِ العلمِ بدقَّةٍ وسدادٍ، وإحاطةٍ لدقيقِه وجليلِه؛ نكونُ قد أَمسَكنا ما أَنزَلَه اللهُ على رسولِه فاستقى منه النَّاسُ، وحين نُفكِّرُ ونُراجعُ ونجتهدُ بعقولِنا لِنُنبِتَ نَبتةً - وإن قَلَّت- فنحنُ على طريقِ الاجتهادِ وطريقِ التَّجديدِ، ثم يُصيبُ كلٌّ منَّا ما يُتاحُ له، وما دُمتَ تقرأُ وتراجعُ وتفكِّرُ وتستخرجُ فأنت مجدِّدٌ.
التَّحصيلُ وحدَه هو إمساكُ الماءِ، أما أن نَجعَلَ التحصيلَ بدايةَ الطريقِ، ثم نُعقِبَهُ بالتدبرِ والتفكيرِ والتفتيشِ فيما حصَّلناهُ، والبحثِ في خباياهُ عن خفاياهُ؛ فنحنُ نجدِّدُ.
وهناك فنيات تطبيقيِّة يجب على الباحث الاعتناء بها؛ لإتقان جرد المطولات، وإتقان الممارسة والتَّطبيق العملي؛ حتى تستقيم لديه الملكة الحديثية؛ منها ما يلي:
1. القراءة الجَرْديَّة:
من استثمار وقت القراءة ما يسمى بـ (قراءة الجرد)؛ وهي المطالعة السَّريعة للكتاب؛ بحيث يلتقط القارئ من خلالها هيكل الكتاب، وأسئلته الرئيسة، ومظانَّ المسائل فيه، والتصورات العامة في الكتاب، ويحدد من خلال هذا الجرد: ما مدى احتياجه للكتاب؟ ثم أين يقع بالضَّبط موضع الحاجة منه؟ حتى لا يتورط بصرف قراءة دقيقة تحليلية لكتاب قد يكتشف بعد الانتهاء منه أنه كتاب هش ضيع وقته، أو لا يتلاقى مع احتياجاته، أو يكتشف أن المفيد من الكتاب هو الفصل الفلاني فقط، فمثل هذه الأمور لا يستطيع أن يحددها من يبتدئ الكتاب بقراءة دقيقة قبل قراءة الجرد، حيث تمثل قراءة الجرد «قراءة استكشافية مُسبقة»؛ وهي القراءة السَّريعة التي ليست تصفحًا عشوائيًّا، بل هي تصفح مُنظم، والتَّمييز بين التَّصفح العشوائي والمنظم هو أحد التَّمييزات الهامة في فن القراءة، والمراد أنَّ الانخراط في القراءة التَّفصيليِّة للكتاب قبل عملية التَّصفح المنظم نوع من الغرور المعرفي، وهو يشبه انعدام الرُّؤية والمنهجية والتَّشتت وضياع الأوقات بلا فائدة تذكر.
والقراءة الجَرْديَّة كانت أحد أهم الأنماط الشَّائعة للقراءة لدى السَّابقين من العلماء، بجانب أنماط أخرى للقراءة طبعًا، كقراءة الضَّبط والتَّصحيح والتَّأمل والاستظهار والحفظ، وأخبارهم في القراءة الجَرْديَّة منتشرة مبثوثة في كتب التراجم، فقد عقد القاسمي فصلًا في كتابه قواعد التحديث في ثنايا الباب التَّاسع قال فيه: «ذكر أرباب الهمة الجليلة في قراءتهم كتب الحديث في أيام قليلة».
فقد ذكر الخطيب البغدادي في ترجمة إسماعيل الحيري، وكان إسماعيل هذا يختص بميزة إسنادية، وهو علو إسناده في رواية صحيح البُّخاري، حيث يروي عن الكُشميهني عن الفِرَبْرِي عن البُخاري، ولما أراد الحيري السَّفر من نيسابور إلى مكة للحج، مر ببغداد إذ كانت على طريق سفره، لكن حملة الحج تعثرت لظروف أمنية، فعزم على الرجوع لنيسابور، فانتهز الخطيب البغدادي الفرصة، وقرأ على الحيري «صحيح البخاري» كاملًا في مدة قليلة، حيث يروي الخطيب البغدادي القصة بنفسه قائلا: «إسماعيل بن أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الحيري من أهل نيسابور، قدم علينا حاجًّا في سنة ثلاث وعشرين وأربع مائة، وحدّث ببغداد عن: أبي طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأحمد بن إبراهيم العبدوي، والحسن بن أحمد المخلدي، وأحمد بن محمد بن إسحاق الأنماطي، وأحمد بن محمد بن عمر الخفاف، وأبي الحسن الماسرجسي، ومحمد بن عبد الله بن حمدون، وأبي بكر الجوزقي، ومحمد بن أحمد بن عبدوس المزكي النيسابوريين، وأزهر بن أحمد السرخسي، والحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين الحدادي المروزي، وأبي نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، وأبي الهيثم محمد بن المكي الكشميهني، وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهم كتبنا عنه، ونِعم الشيخ كان فضلًا وعلمًا، ومعرفة وفهمًا، وأمانة وصدقًا، وديانة وخلقًا، سئل إسماعيل الحيري عن مولده، فقال وأنا أسمع: ولدت في رجب من سنة إحدى وستين وثلاث مائة، ولما ورد بغداد كان قد اصطحب معه كتبه عازمًا على المجاورة بمكة، وكانت وقر بعير، وفي جملتها «صحيح البخاري»، وكان سمعه من أبي الهيثم الكُشميهني عن الفربري، فلم يقض لقافلة الحجيج النفوذ في تلك السنة لفساد الطريق، ورجع الناس فعاد إسماعيل معهم إلى نيسابور، ولما كان قبل خروجه بأيام خاطبته في قراءة كتاب «الصحيح»، فأجابني إلى ذلك، فقرأت جميعه عليه في ثلاثة مجالس، اثنان منها في ليلتين كنت أبتدئ بالقراءة وقت صلاة المغرب وأقطعها عند صلاة الفجر، وقبل أن أقرأ المجلس الثالث عبر الشيخ إلى الجانب الشرقي مع القافلة ونزل الجزيرة بسوق يحيى، فمضيت إليه مع طائفة من أصحابنا كانوا حضروا قراءتي عليه في الليلتين الماضيتين، وقرأت عليه في الجزيرة من ضحوة النهار إلى المغرب، ثم من المغرب إلى وقت طلوع الفجر، ففرغت من الكتاب، ورحل الشيخ في صبيحة تلك الليلة مع القافلة»([18]).
وقد تناقل العلماء هذه الواقعة للخطيب البغدادي، وكتبوها بحبر الدهشة، وشرقت كلماتهم بالانبهار، حتى أن الذهبي ذكر هذه القصة في كتابه «سير أعلام النبلاء»، ثم عقب الذهبي بعدها بقوله: «قلت: هذه والله القراءة التي لم يسمع قط بأسرع منها»([19])، كما نقل الذَّهبي القصة ذاتها في كتابه الآخر «تاريخ الإسلام»، ثم قال: «وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه»([20]).
فالقراءة الجَرْديَّة فنٌّ، فالكتب كثيرة والعُمُرُ قصيرٌ، والصوارفُ تتزايدُ، ومن تأمل هذه المعادلة أدرك أنه لا يمكن الفرار من التفكير في استثمار الوقت المخصص للقراءة إلى أقصى ما يمكن تحقيقه من الأرباح المعرفية.
ويحدد من خلال هذا الجرد مدى احتياجه للكتاب وموضع الحاجة منه، والانخراط في القراءة التفصيلية للكتاب قبل عملية التصفح المنظم نوع من الغرر المعرفي، وهو يشبه ركوب المجاهل قبل تصفح الخريطة أو البوصلة الموجهة، وكما يقال: لكل جهد منظم عائد مضاعف، والقراءة الجَرْديَّة كانت أحد أهم الأنماط الشائعة للقراءة لدى سلفنا بجانب أنماط أخرى للقراءة طبعًا، كقراءة الضبط والتصحيح والتأمل والاستظهار والحفظ، وأخبارهم في القراءة الجَرْديَّة مبثوثة في كتب التراجم، وفي واحد من عيون كتب التراجم وهو كتاب الحافظ السخاوي الذي سماه «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر»، وشرح فيه السخاوي أحوالًا علمية في غاية الفرادة والإبهار لشيخه الحافظ ابن حجر (ت 852هـ)، ومنها منجزات ابن حجر العلمية أثناء رحلاته إلى قوص والإسكندرية والحجاز واليمن والشام، وما أبدعه خلال ذلك من المطالعات والمؤلفات والتعليقات، وكانت قائمة مذهلة من الأعمال العلمية، ثم عقب بعد ذلك بتفسير هذه القدرة العجيبة لهذا الإنجاز، فقال: «وأعانه على كل هذا أمور يسرها اللهُ تعالى له قلَّ أن تجتمع في غيره. منها: سرعة القراءة الحسنة. فقد قرأ «السُّنن» لابن ماجه، في أربعة مجالس. وقرأ «صحيح مسلم» بالمدرسة المنكوتمرية على مسنِد مصر الشرف أبي الطاهر محمد بن العز محمد بن الكُويك الرَّبعي، في أربعة مجالس، سوى مجلس الختم، وذلك في نحو يومين وشيء، فإنه كان الجلوس مِنْ بُكرة النَّهار إلى الظهر، وحدثهم القارئ به عَن محمد بن ياسين الجزولي، وعن المفتي الشهاب أحمد بن أبي بكر بن العز الصَّالحي الحنبلي إذنًا منهما، برواية الأول عَنِ الشَّريف أبي طالب الموسوي حضورًا وإجازة، والثاني: عن القاضي سليمان بن حمزة إجازة بسندهما. وانتهى ذلك في يوم عرفة، وكان يوم الجمعة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة. كذا قرأ «كتاب النَّسائي الكبير» على الشَّرف المذكور في عشرة مجالس، كل مجلس منها نحو أربع ساعات. وسمعه بقراءته الفضلاءُ والأئمةُ، وحدَّثهم به عَنِ العفيف النَّشَاوري، عن الرَّضي الطَّبري إذنًا، عن الحافظ أبي بكر بن مَسْدي بسنده. وانتهى في يوم عاشوراء سنة أربع عشرة وثمانمائة. وأسرعُ شيء وقع له أنه قرأ في رحلته الشَّامية «معجم الطَّبراني الصَّغير» في مجلس واحد بين صلاتي الظُّهر والعصر، وهذا الكتاب في مُجلد يشتمل على نحوٍ مِنْ ألف حديثٍ وخمسمائة حديث؛ لأنَّه خرَّج فيه عن ألف شيخ، عن كلِّ شيخٍ حديثًا أو حديثين. ومن الكُتب الكبار التي قرأها في مدة لطيفة: «صحيح البخاري»؛ حدّث به الجماعةُ مِنْ لفظه بالخانقاه البَيْبرسية في عشرة مجالس، كل مجلس منها أربع ساعات...» ([21]).
2. التَّصنيفُ التَّحصيليُّ:
يستطيع كثيرٌ من المعنيِّين بالعلم أن يكتُبَ كتاباتِ جمعٍ وتلخيصٍ واختصارٍ بكثرةٍ، لكن أن يكتب كتابة تحرير وتدقيق وتحقيق بحيث تكون هذه الكتب مرجعية لدى العُلماء الكبار، فهذا يحتاج غالبًا عُمرًا طويلًا من الحفظ والضَّبط والبحث والتَّنقيب ومُقارنة المصادر ومدارسة المسائل والتَّأمل والخبرة الطويلة بها، ومن هاهنا موضع الدَّهشة والانبهار حيال مُؤلفات النَّووي؛ فمؤلفات النَّووي في الحديث والفقه واللغة والتراجِم صارت «مصادر مرجعية» بين المتخصصين، برغم أنَّ النَّووي طلب العلم مُتأخرًا، ومات مُبكرًا! فالنَّووي ابتدأ في طلب العلم متأخرًا نسبيًّا سنة 694هــ، وكان عُمره حينها كما أخبر هو عن نفسه 19سنة، وهذا عمر مُتأخر في الطَّلب بالنِّسبة لزمانهم الذين يبتدئون فيه بطلب العلم قبل البلوغ كما يقول النَّووي عن نفسه: «فلما كان عُمري تسع عشرة سنة؛ قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين فسكنت المدرسة الرَّواحية»، ثم توفي النَّووي سنة 676هـ، وكان عُمره حين توفي 45 عامًا، والعُلماء في سن الأربعين يبتدئ عطاؤهم العلمي الدَّقيق المحرر، ويقول الإمام النَّووي عن نفسه إنه مكث ست سنوات في طلب العلم، ثم بدأ التَّأليف أي أنه بدأ التَّأليف وعُمره 25سنة، كما يخبر النَّووي تلميذه ابن العطار: «وذكر لي رحمه الله أنه كان لا يضيع له وقتًا في ليلِ ولا نهار؛ إلَّا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطُّرق ومجيئه يشتغل في تكرار محفوظه، أو مطالعة، وأنه بقي على التَّحصيل على هذا الوجه نحو ستِّ سنين. ثم إنَّه اشتغل بالتصنيف، والإشغال، والإفادة، والمناصحة للمسلمين ووُلاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه، والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء وإنْ كان بعيدًا، والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من الشوائب؛ يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محقِّقا في علمه وفنونه، مُدقِّقًا في علمه وكلِّ شئونه، حافظًا لحديث رسول الله ﷺ، عارفًا بأنواعه كلها؛ من صحيحه وسقيمه...» ([22]).
وقد فسر الإسنوي هذا الإنتاج الضَّخم والتَّفنن العلمي؛ فقال: «ووقوع هذا للشَّيخ محيي الدِّين النَّووي أكثر، وذلك أنه لما تأهل للنَّظر والتَّحصيل، رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفًا، ينتفع به النَّاظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلًا، وتحصيله تصنيفًا... ولولا ذلك لم يتيسر له من التَّصانيف ما تيسر، فإنه رحمه الله دخل دمشق للاشتغال وهو ابن ثمانية عشرة سنة، ومات ولم يستكمل ستًا وأربعين»([23]).
ومراد الإسنوي أن النَّووي جعل تأليفه وسيلة للتَّحصيل وطلب العلم، وجعل طلبه وتحصيله للعلم في صيغة مُؤلفات فورًا؛ أي: أن تقييداته أثناء طلب العلم يجعلها في صيغة مؤلفات بدلًا من أن تذهب مُقيدات الشَّباب سُدًى.
وهل هذا الأمر حدث اتفاقًا للنَّووي أم كان سُلوكًا واعيًا، بمعنى أنَّ النَّووي كان يستحضر فائدة التَّأليف في تعليم المؤلف ذاته؟ الحقيقة أن ثمة عبارة للنَّووي قالها في كتابه الآخر «شرح المهذب» تكشف أنَّ عنايته المبكرة بالتأليف كانت لأهداف التَّعلم الذَّاتي؛ حيث يقول النَّووي في مُقدمته التي شرح فيها آداب طالب العلم: «وينبغي أن يعتني بالتَّصنيف إذا تأهل له؛ فبه يطلع على حقائق العلم ودقائقه، ويثبت معه لأنه يضطره إلى كثرة التَّفتيش والمطالعة والتَّحقيق والمراجعة، والاطلاع على مختلف كلام الأئمة ومتفقه، وواضحه من مشكله، وصحيحه من ضعيفه، وجزله من ركيكه، وما لا اعتراض عليه من غيره، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد...»([24]).
فالنَّووي هاهنا لا يحث على التَّصنيف فقط، بل يكشف الاعتبارات الدافعة للتَّصنيف، ويسهب في شرح أثرها في الصُّعود بتصورات طالب العلم من جهة أنها تلجئه إلى التَّمعن.
ولكن هل فكرة التَّصنيف التَّحصيلي أو التَّأليف بهدف التَّعلم تصور منفرد؟ أو تصور متأخر إلى عصر النَّووي؟ فثمة شواهد قبل ذلك بقرون، ومن أجمل تلك الشَّواهد عبارة نقلت عن الإمام الخطيب البغدادي (ت643 هـ) عن أشياخه ذلك أن الخطيب تحدث عن أهمية التأليف، ثم نقل عبارة تحث على تحويل الكتابة الشخصية للتعلم إلى كتابة تصنيفية يقول الخطيب: «ينبغي أن يفرغ المصنف للتَّصنيف قلبه، ويجمع له همه، ويصرف إليه شغله، ويقطع به وقته، وكان بعض شيوخنا يقول: من أراد الفائدة فليكسر قلم النَّسخ وليأخذ قلم التَّخريج» ([25]).
وقد علق البقاعي على هذه العبارة فقال: «لأن النَّاسخ لا يتأمل في الغالب ما يكتبه، وإن تأمل لم يمعن، بخلاف المخرِّج فإنه يحتاج أن يتأمل حق التَّأمل»([26]).
وتأمل قول الإمام الزَّركشي -رحمه الله تعالى- في بداية تنكيته على ابن الصلاح؛ فقال: «وقصدت بذلك الرُّجوع إليه عند أوقات درسي ومراجعتي لنفسي»([27]).
3. تدريسُ العِلمِ:
يظنُّ بعضُ النَّاسِ أن تدريس العلم مرحلة تأتي بعد الانتهاء من العلم، وهذا ليس في محله غالبًا، بل تدريس العلم وسيلة من وسائل التعليم، فإذا قطع طالب العلم شوطًا في العلم فيبدأ بتدريس من دونه، ويلاحظ كيف تتفتح له أغوار المسائل، وكم جربت هذا ووجدت له أثرًا طيبًا، وهالني ما ظهر لي من الفروق والتَّدقيق وإبراز الجوانب النَّقدية، فالتَّدريس هو قراءة للعلم بعين أخرى كما قيل»([28]).
وقد تفتَّقت أذهانُ العرب، وأنتجت قرائحُهم مثلًا يتغنَّى به الرُّكبانُ، سجله الأديب الأريب شيخ العربية المبرد في كتاب «الكامل» قال: «ومن أمثال العرب: خير العلم ما حوضر به، يعني: ما حفظ وكان للمذاكرة»([29])، وقد نبه بعض أئمة التابعين بل صوروها في صور تأكيدية، كقول النخعي: «إذا سمعت حديثًا فحدِّث به حين تسمعه، ولو أن تحدِّثَ به من لا يشتهيه، فإنه يكون كالكتاب في صدرك»، بل إنَّ الخليل بن أحمد سمى التعليم دراسة! وهذا غاية ما يمكن من الربط بين التعليم والتعلم، كما قال الخليل بن أحمد: «اجْعَلْ تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك، وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك»([30]).
وهذا النَّاقد الأدبي المعروف الدُّكتور إدوارد سعيد، لاحظ أنه أثناء عملية التَّدريس ذاتها تتفتح له تصورات لم تكن على باله أثناء التَّحضير، بل وأصبحت هذه الأفكار التي تطرأ له أثناء التَّدريس يستثمرها ويدوِّنها في مؤلفاته، وعنون إدوارد سعيد لهذا الأمر عنوانًا في أحد كتبه سماه «لطالما تعلمت أثناء الدرس»، يقول: «أنا أدرس منذ أربعين عامًا تقريبا، ولطالما تعلمت أثناء الدروس نفسها، أفتقد لشيء ما عندما أقرأ، وأفكر من دون وجود طلاب، ولذلك طالما اعتبرت دروسي ليست روتينًا يفترض القيام به، بل تجرِبة بحث واستكشاف، وأعتمد كثيرًا جدًّا على ردات فعل طلابي، عندما بدأت التدريس في أيامي الأولى كنت أفرط في التحضير، كنت أخطط لكل ثانية من الدرس فيما بعد، أكتشفت أن تعليقات الطلاب يُمكنها أن تحفز أفكارًا ونقاشات لم أكن أتوقعها مسبقًا، وفي كثير من الأحيان كان ذلك يجد مكانه في كتاباتي»([31]).
وأنصح طلاب العلم بتقوية الملكة النَّقدية، وإعمال المحكمات العقلية؛ فكثرة الاطلاع مع نقص القريحة تجعل صاحبها مجمعًا للمتناقضات وهو لا يدري، ويكون عقله مثل كشكوله، مقولات مختلفة وطرائف متفرقة تزيده تشتيتًا، لا توضح له التصور، ولا تصحح له الحكم، ولا تنقذه من حيرة.
وهذا كلام نفيس لشيخ البلاغيين شيخنا العلامة الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو موسى - حفظه الله وأدام النفع به – قال حفظه الله وأدام النفع به: «وكنت وما زلت شديد العناية بأن أبحث عن العلم، وعن علم صناعة العلم، وكنت أُحدِّث طُلابي في هذين، وكنت وما زلت أشعر أنَّ علم العلم صعب، وأصعبُ منه علم صناعة العلم، والنَّاظر المدقق في كتب علمائنا يرى أنهم كما شرحوا لنا العلم شرحوا لنا أيضًا -ولكن بطريقة أغمض- علم صناعة العلم، وظني أن ساعة من نهار مع طلاب العلم في علم صناعة العلم أجدى عليهم من سحابة يوم في تحصيل العلم، وكم أتمنى أن أرى في أقسام الدِّراسات العُليا في جامعاتنا علمًا اسمه علم إنتاج المعرفة أو صناعة المعرفة، يقوم على بيان طرائق العلماء الذين أنتجوا المعرفة، وكيف بنى من بنى، وهذا العلم المسكوت عنه ظاهر جدًّا في الكُتب التي أسست أو شاركت في تأسيس العلوم...»([32]).
المصادر والمراجع
([1]) استفدنا هذه الإضاءات في القراءة الفعالة من كتاب «فن القراءة أهميتها مستوياتها مهارتها أنواعها» للدكتور عبداللطيف الصوفي، رئيس قسم المكتبات والمعلومات في جامعة قسنطينة بالجزائر، وكتاب «القراءة المثمرة مفاهيم وآليات» للدكتور عبد الكريم بكار، وكتاب: «كيف تقرأ كتابًا؟» لمورتيمر أدلر.
([2]) ومن رجع إلى كتاب « صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل» لشيخ شيوخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى- لوجد كيف كانت الهِمم العالية والنفوس الكبيرة في قراءة وتحصيل العلم في جميع المجالات والمعارف والدليل على قولي ما أنتجته الحضارة الإسلامية مقارنة بغير من الحضارات ؛ لأننا نشعر بتراجع شديد في مستوى القراءة بين طلاب العلم في دنيا اليوم وبخاصة مع انتشار وسائل التقنية الحديثة .
([3]) ينظر: مجلة «الرسالة» عدد (427).
([4]) ينظر: كيف تقرأ كتابًا؟ لمورتيمر أدلر (ص: 72 وما بعدها ).
([5]) ينظر: «27خرافة شعبية عن القراءة»، ساجد العبدلي (ص: 15).
([6]) وليس هذا خاصًّا بعالمنا العربي والإسلامي، بل أيضًا في الغرب؛ فالغالبية العظمى لعدة ملايين كتاب التي كتبت في التراث الغربي فقط أكثر من 99% منهم لن تتطلب جهدًا كبيرًا من قبل القارئ لتحسين مهاراته في القراءة، بل هي من أجل التَّسلية، أو من أجل الحصول على بعض المعلومات، وهذه الكتب لا يتوجب قراءتها قراءة تحليلية على الإطلاق، فتصفُّحُها كافٍ. ينظر: كيف تقرأ كتابًا؟ لمورتيمر أدلر (ص: 24، 369).
([7]) ينظر: «قراءة القراءة» لفهد الحمود (ص: 119).
([8]) ينظر: «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب الحنبلي (2/226، 503، 3/323، 492).
([9]) ينظر: «معجم الأدباء» لياقوت الحموي (1/187).
([10]) ينظر: «كيف تقرأ كتابًا؟» مورتيمر أدلر (ص: 72)
([11]) ينظر: «السُّنة النَّبويَّة وتأصيلها للتَّفكير النَّقدي» للمؤلف (ص: 55) .
([12]) ينظر: «إعجاز القرآن الكريم» للباقلاني (ص: 197).
([13]) ينظر: «تعليم المتعلم طريق التَّعلم» للزرنوجي (ص: 43).
([14]) ينظر: «دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني (ص: 260).
([15]) قال العقاد رحمه الله تعالى: «إن قراءة كتاب واحد ثلاث مرات غالبًا أنفع من قراءة ثلاث كتب في الموضوع نفسه».
([16]) ينظر: «الذَّريعة إلى مكارم الشَّريعة» للأصفهاني (ص: 177).
([17]) قال أريك فروم أحد علماء النَّفس في بحثه عن طبيعة الحب وأشكاله ص: 14: «إن عملية تعلم فن من الفنون يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول هو السَّيطرة على النظرية، والثاني هو السَّيطرة على الممارسة».
([18]) ينظر: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (7/317).
([19]) ينظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (18/280).
([20]) ينظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي (10/175).
([21]) ينظر: «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر» للسخاوي (1/161 وما بعدها ).
([22]) ينظر: «تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين» لابن العطار (1/64).
([23]) ينظر: «المهمات في شرح الرّوضة والرَّافعي» للإسنوي (1/99).
([24]) ينظر: «المجموع شرح المهذب» للنووي (1/30).
([25]) ينظر: «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» للخطيب (2/282).
([26]) ينظر: «النكت الوفية بما في شرح الألفية» للبقاعي (2/394).
([27]) ينظر: «النُّكت على ابن الصَّلاح» للزَّركشي (1/11)، وقد استفدنا هذا من كتاب «مسلكيات» لإبراهيم السَّكران (ص: 51 وما بعدها).
([28]) بمعنى هذا القول قال العلامة محمود الطناحي : «ما زلت أقول : إننا حين نعلم وخرج أبناءنا الطلبة إنما نقرأ معهم العلم مرة أخرى» ينظر: مقالات الطناحي (1/15) .
([29]) ينظر: «الكامل في اللغة والأدب» للمبرد (1/241).
[30]) ينظر: «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص: 79).
([31])ينظر: «السلطة والسياسة والثقافة» لإدوارد سعيد (ص305).
([32]) ينظر: «المسكوت عنه في التراث البلاغي» (ص: 100 وما بعدها ) لشيخنا العلامة الأستاذ الدكتور/محمد محمد أبو موسى – حفظه الله تعالى -.
رائع
ارجوا مشاركة مقالاتي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.