كيف تناولت أفلام "ثلاثية الأخلاق" ظاهرة انهيار المجتمع؟

فيلم "الكيف" من إنتاج سنة 1985، أنتجه مؤلفه محمود أبو زيد، ومن بطولة محمود عبد العزيز ويحيي الفخراني وجميل راتب والفنانة نورا، ومن إخراج علي عبد الخالق

ويدرج الفيلم مع فيلمين آخرين وهما "العار" و"جري الوحوش" تحت اسم "ثلاثية الأخلاق"، ويوجد من يضيف لهم فيلمين آخرين، هما: "الذل" و"البيضة والحجر" تحت اسم الخماسية

وأفلام "ثلاثية الأخلاق" تعاون فيها المخرج علي عبد الخالق مع الكاتب محمود أبو زيد.

اقرأ أيضًا العلاقة بين التغييرات في المجتمع والفن في أوائل القرن العشرين

القصة 

"بعد فشل جمال في الدراسة يقرر العمل مطربًا في فرقة شعبية لإحياء الأفراح، ويحاول شقيقه الكيميائي صلاح إقناع جمال بالإقلاع عن المخدرات فيعطيه قطعة حشيش صُنعت في المعمل من مواد عطارة غير ضارة وينصحه باستخدامها وتقديمها لأصدقائه بدلًا من الحشيش.

وتنال التركيبة إعجاب أحد تجار المخدرات، ويسقط صلاح أمام إغواء المال الذي يتوالى عليه بسبب تركيبته".

اقرأ أيضًا حيرة الإنسان بين العقل والشهوة ... من سيكسب الرهان

أفكار من داخل صندوق النص

لا يمكن تحليل النص بعيدًا عن مسألة الأخلاق، وهذا واضح من اسم الثلاثية، وقد كان الصناع واضحين في ذلك عن طريق مشاهد متعددة ترمز لذلك بوضوح. وعلى سبيل المثال اللوحة في بيت العائلة التي تحمل بيت شعر لأحمد شوقي

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

اقرأ أيضًا وسائل الإعلام وأهميتها في المجتمع

يمكن تسطير: كيف تفسد الشعوب، وكيف تنهار المجتمعات؟

سؤالًا يسعى الفيلم للإجابة عنه عن طريق قصته المتجسدة في (جمال) المطرب الشعبي محيي الأفراح، وشقيقه (صلاح) الكيميائي

(جمال) لم يفلح في كلية الحقوق، نزل إلى الشارع وتعامل مع الحياة بقوانين العصر المتحكمة، يتعاطى جمال المخدر وحياته على النقيض بالمقارنة مع حياة صلاح الكيميائي المحترم صاحب الأخلاق والمبادئ، متزوج وله بنت، حياة صلاح مستقرة نسبيًّا، ولكن يعكر صفوها الضيق المادي الذي يعانيه صلاح نتيجة المرتب الهزيل الذي يتقاضاه من عمله ونتيجة عدم قدرته على مسايرة أمور الحياة بالأساليب التي أصبحت لازمة مثل: الوسائط والغش والاستغلال.

وعلى الجانب الآخر لا يمثل المال أي مشكلة في حياة جمال، وهنا الشرارة التي ننطلق منها.

صلاح -نتيجة المبادئ والأخلاق التي يتمسك بها- يتعرض لعقبات متتالية تعكر صفو الحياة، فهو على سبيل المثال لا تمثل الوسائط له طريقًا لحل المشكلات والأمور المعقدة فيواجه مشكلة في إدخال بنته إلى المدرسة بسبب صغر سنها عن السن القانوني المطلوب، فيرضى ويرضخ لذلك إيمانًا منه بأنها قوانين لا يمكن كسرها ولوائح يجب الالتزام بها، في حين يتوسط جمال أخيه له لتُقبل الفتاة في المدرسة.

(والملمح هنا أن التوسط إلى مدرسة حكومية فعل لم يقدر عليه صلاح الكيميائي المتعلم وقدر على ذلك أخوه الفاشل جمال!).

يُلمَّح لذلك على نحو أكثر وضوحًا في الحوار بين صلاح وزوجته عندما يسألها مستغربًا عن قدرة جمال على ذلك

مستطردًا بأنه على علاقة بأهم الشخصيات في الوزارة ويتمنون أن يخدموه بسبب صداقتهم القديمة بوالد صلاح. والد صلاح الذي كان يُعرف بالأخلاق والمبادئ والالتزام. (ويمثل صلاح امتدادًا لوالده صاحب الأخلاق والمبادئ).

وذاك السبب نفسه هو الذي أعجز صلاح عن إمكانية إدخال بنته إلى المدرسة بنفسه، لأنه استخدم معارف والده الذي هوخليفة له في تمسكه بالمبادئ والأخلاق، بينما جمال الذي يعرف من أين تأكل الكتف هوالذي استطاع

ويظهر هنا دور المجتمع الفاسد عندما يكون بمثابة بيئة سامة لا تنبت فيه البذرة الصالحة، فعندما يُعمل اعتبار لجمال (المغني ومدمن المخدر) ولا يقدر صلاح (رجل المبادئ وصاحب الأخلاق)! هنا يتحول المجتمع إلى بيئة فاسدة مفسدة تغذي أفراده بالفساد الفكري والعلمي والأخلاقي.

اقرأ أيضًا متى ظهرت الشيخوخة الاجتماعية؟ وكيفية تعامل المجتمعات معها؟

الظروف الاجتماعية: كل الطرق تؤدي إلى الهلاك 

مع انتشار الفساد يتقبله الناس مع مرور الوقت؛ نتيجة الاعتياد (تتجلى هنا أهمية ودور الحق في محاربة الفساد والتخلص منه أو تحجيمه).

ونتيجة الظروف الاجتماعية القاتمة القاتلة المؤدية بالضرورة إلى انحدار المجتمع لا محالة ووصول المجتمع لحالة متردية ونسخة غاية في الرداءة يصعب إصلاحها

حتى يتعايش الخلق والناس مع مثل هذه النسخة من المجتمع بأحواله الرديئة وبيئته العفنة يتحتم على الناس أن يكونوا ضمن النسيج المكون، فتتفاقم رقعة الفساد.

لذلك ينخرط الخلق في المجتمع بنسخته الكائنة متعاملين معه بقوانينه حتى يتمكنوا من مجاراة الحياة.

يتجسد ذلك في حديث جمال وصلاح مع سائق التاكسي، عندما قال جمال عن الأغنية: (لازم ندوش الدوشة بدوشة أدوش من دوشتها عشان متدوشناش)= فلسفة الفساد

أضيف هنا تفسيرًا جديدًا لقانون دارون الذي يعبر عنه بقوله: البقاء ليس للأقوى ولا للأذكى، البقاء للأكثر استجابة للتغيير.

فالإنسان الذي يغير من مبادئه وقيمه تبعًا لظروف بيئته ومجتمعه هو الذي يبقى، أما من يتمسك بمبادئه فهو الذي تهب في وجهه عواصف التغيير.

عندما يكون أقصى ما يطمح له الشاب بعد أن بذل سنين عمره في الدراسة أن يكون قادرًا ماديًّا على الزواج

في حين على الجانب الآخر المجتمع نفسه الذي يصعِّب الزواج (الحلال)، يرمي أمامك حلولًا أكثر سهولة ويسرًا متمثلة في الزنا والعلاقات غير الشرعية والمصاحبة والمخدرات

فمن الطبيعي أن تتحول بوصلة الأفراد نحو هذه الحلول نتيجة الضغوط الاجتماعية، وليس عنك ببعيد أننا لسنا نبي الله يوسف.

وليس هذا بمثابة تبرير للأفراد ما يفعلونه، ولكن مجرد محاولة للكشف عن الأسباب والعلل.

اقرأ أيضًا 10 أفكار أحدثت ثورة في مجتمعنا العربي الحالي

كيف يتخلى المجتمع عن الأخلاق؟ 

لا تنمو ثقافة التفاهة إلا في الوسط الضعيف (أخلاقيًّا - دينيًّا - علميًّا).

أنقل هنا جزءًا بسيطًا من شرح الشيخ محمد محمد أبو موسى شيخ البلاغيين:

(العلماء بيقولوا كلام وانتم حافظينه وأنا حافظه، أن معجزات الأنبياء تأتي يؤيد الله كل نبي بالأمر الذي نبغ فيه قومه.

فلما نبغ العرب في الفصاحة كانت المعجزة القرآن. وهكذا

ولما بلغ السحر مبلغه زمن فرعون.

تساءلت ولما يا فرعون منغبغش في زمانك غير السحر؟ 

الشعوذة يا سيدنا.. الشعوذة يا فرعون.. يا شيخنا القديم

أأنت كانت مهمتك بأن تشغل الشعب بالشعوذة، حتى تظل تقول فيهم أنا ربكم الأعلى؟ 

وأنك لن تستطيع أن تقول للناس ما علمت لكم من إله غيري إلا إذا غيبت عقولهم بالسحر والشعوذة.

وكأنك كنت تشرع شريعة لكل فرعون بعدك، لأن كل الفراعين بعدك حاولوا أن تتلهى شعوبهم بما يشبه السحر الذي كان في زمانك.

فإذا كان زمان الناس لا يقبل السحربحث الفراعين عن شيء آخر يقوم مقام السحر، المهم أن لا تستيقظ العقول وأن لا يعود الوعي وأن لا يتنبأ الناس وألا تشرق الأرض بنور العلم، لأنها إذا أشرقت الأرض بنور العلم فلن يبقى فيها خفافيش؛ لأن الخفافيش لا تعيش إلا في الظلام).

هذا التحليل العظيم من الشيخ حفظه الله ندرك منه

· أن المجتمعات الضعيفة علميًّا وأخلاقيًّا هي بيئة خصبة للفساد والانحطاط

· السحر الذي كان في زمان فرعون والذي يبحث عنه الفراعين في كل زمان على النحو المناسب هو عينه الوهم الذي تحدث عنه الفيلم معبرًا عنه بالكيف

فعندما يسقط الناس في مثل هذه الأوهام يسود الظلام ولا يجد الظالم من يعترض طريقه

ولدى الدكتور أحمد خالد توفيق قول بليغ يقول فيه (الأمة الجاهلة أسهل حكمًا من الأمة المتعلمة).

والمجتمع الذي يتخلى عن الأخلاق والمبادئ لم يحدث له ذلك عبثًا، بل هو نتاج القهر والذل والقمع الذي يتعرض له.

فكما يقول الدكتور أحمد خالد توفيق: الأخلاق تتآكل في الفقر كما يتآكل المعدن الذي يقطر فوقه الماء.

اقرأ أيضًا المجال الاجتماعي في حياة الإنسان

المجتمعات الضعيفة لا تنتج، تستهلك فقط

ولا يمكنها الإبداع أبدًا.

يتجسد ذلك في كلمات الأغنية التي كانت في بداية الفيلم (البيلي بيلي باه، البيلي بيلي بوه)، وأغنية جمال (الكيمي كيمي كاه، الكيمي كيمي كوه)

وهذه ليست قصة فيلم نشاهده على التلفاز، هذا هو الواقع.

تجد منتج أرويو وبجانبه منتج شبيه له تمامًا باسم بوريو

ناهيك عن تشابه كلمات الأغنية مع أغنية (السح الدح انبوه)

وناهيك أيضًا عن كلمات أغاني المهرجانات التي تسمعها الآن وما تحمله من بذاءة ألفاظ وبلادة معنى!

والكل يشارك في تغييب المجتمع، من بداية موالسة الإعلاميين، ورجال الدين الذين يحذرون الناس من عذاب القبر في حين يعاني الناس عذاب السجن

بالإضافة إلى أنظمة التعليم الفاشلة التي يجدر بها أن تسمى أنظمة تعليب أو تعتيم لا تعليم!

وكان ذلك متجسدًا في الفيلم بعبقرية عندما كان يوجد ارتباط بين صناعة الكيف وصناعة أغنية جمال = الاثنان وهم يُسهم في تغييب المجتمع

بدأ الفيلم باعتراض صلاح على الغنوة المشغلة، وكان لا يزال صلاح بفطرته (صالحًا) وبمرور الأحداث والوقت رأينا ما الذي حل من تغيرات على شخصية صلاح، ما يعني أن صلاح فسد وأصبح فردًا ضمن النسيج المكون للمجتمع الفاسد.

وفي نهاية الفيلم يظهر رجل آخر وتاكسي آخر ولكن أغنية من النوع نفسه، ويعترض الراكب على الغنوة ويقال له ما قد قيل لصلاح: أنا أول ما سمعتها مدخلتش دماغي ولكن مع الوقت نغششت في دماغي

ومن ثم يتسع الكادر ليقول لنا الصناع: أفسد المجتمع صلاح وها هو المجتمع يُفسد آخر حتى عم الفساد على الجميع.

اقرأ أيضًا أساليب تعزيز السلوك الإيجابي.. تعرف الآن

يحضرني هنا مقولة: كثرة المساس تفقد الإحساس

نتيجة التعرض المستمر لثقافة التفاهة تتبدل الأذواق وتتبلد القدرة على التفريق بين الغث والثمين

يتجلى ذلك في المهشد الذي يحكي فيه البهظ بيه عن تجربته عندما كان تاجرًا يضع نشارة الخشب بدلًا من الشاي ويبيعه للناس، وبمرور الوقت أصبحت نشارة الخشب أغلى من الشاي؛ ما اضطر البهظ إلى أن يمتنع عن ذلك، ولكنه يفاجأ باعتراض الناس على طعم الشاي ويخسر تجارته

وأيضًا في تجربة تبديل صلاح الحشيش بمواد كيميائية أخرى، ومع ذلك لم يلاحظ أحد الفرق، بل أصبحوا مساطيل من المواد الكيميائية

ما يعني أن الناس في الطبيعي مغيبون، والمخدر مجرد وهم يساعدهم في ذلك.

"أنا بعتلك كيلو الوهم بألف جنيه"!

حتى الوهم له مريدون الآن!

الكيف الذي يرمي عليه أبو زيد وعلي عبد الخالق هو الوهم في أي صورة تشكل، فقد يتمثل في حشيش ومخدر وقد يتمثل في شكل أغانٍ هابطة وانحدار في الذوق العام، أو تشويه في الوعي الجمعي، الدجل والخرافات.

كل ذلك وأكثر يرتدي في النهاية رداء الوهم متخذًا سبيله داخل البيئات الفاسدة والمجتمعات الواهية الضعيفة أخلاقيًّا وعلميًّا وقبل ذلك كله دينيًّا.

"أنا رأيي أن الأغاني اللي بتبعد الناس عن واقع الحياة وبتلغي عقلهم وتفكيرهم زيها زي المخدرات ويمكن أكثر" وهي الوهم بعينه؛ وهو الذي من وراء القصد.

"الكيف مش من أساسيات الحياة

المنطق الذي تحدث به المزجنجي لإقناع صلاح بصناعة مزيد من الخلطة نتاج الخلفية العلمية، فلا ننسى أنه درس القانون، ينم ذلك أيضًا عن مهارة واضحة يتمتع بها المزجنجي لإقناع من يحدثه بالحجة والمنطق وإن لم يكن يملكهما

وذاك بذاته ما يميز محاميًا عن آخر، ونتوصل من ذلك إلى أن المزجنجي لديه مهارة لو كان اغتنمها في الحقل الصحيح لكان تميز أيضًا ولكن في إطار مهنة شريفة وكسب طيب

ولكنه تعجل الرزق فخاب وانحدر، وأعمل مهارته في غير مكانها وفي غير ما خُلقت له فكان ما كان.

وفي كلتا الحالتين يمتلك المزجنجي مهارة وهي عامل قوة تمكنه من التميز، وسواء عليه أكان في هذه الطريق أم تلك فالأمر محتوم بتميزه وتفوقه

لكنه كان في عجلة من أمره

اقرأ أيضًا العنف الأسري وتأثيره في المجتمعات وكيفية التخلص منه

التفاهة تفوز في النهاية

"والله أنا محتار في أنه يتعلم أي لغة؟". 

عندما يجد الإنسان السوي الذي يحافظ على أخلاقه ومبادئه ويتحرى الكسب الطيب يجد المال في أيدي من يصنعون الطبل والزمر لا في أيدي العلماء أو المفكرين

يجد الأضواء تُسلَّط على التافهين ممن لا يُحكمون عقلًا ولا ضميرًا.

هذا ما يدور في عقول عموم الشباب الحائر.. مغني المهرجانات الذي لا نفهم كلامه ولا نستسيغ صوته يحقق أموالًا تضاهي لا يقدر المدرس -إذا امتنع عن الدروس-، أو الدكتور-إذا التزم بعمله الحكومي فقط-، أو المحاسب تحصيله في سنوات عمره بل وسنوات عمر شجرة عائلته كاملة

الطريق سهل ميسر معبد مزخرف ملفت جذاب، يمكنك من العيش باستقرار ودون قلق من مستقبل قريب أو بعيد

على العكس من الطريق الثاني ملتوٍ متعب مثقل بالمبادئ والشعارات الهشة التي لا تقف في مهب الصعاب.

فلمَ العناء؟ 

ما يثني المريد عن الطريق الأول رغم ما فيه من تيسير ويسلك ضرب الطريق الثاني رغم ما به من تعسير ليس إلا الأخلاق الحميدة والمبادئ المجيدة والدين القويم والعلم السليم والعقل الراشد الحليم.

ولكن أين تقع على مثل هذه الوصفة؟ 

لن تجدها إلا عند الحكماء وأهل الحكمة أقلاء في زماننا.

بعد أن جاء "البهظ بيه" بصلاح وعرض عليه أن يستمر في صناعة الكيمياء "الخلطة" التي يجيد صنعها، ورفض صلاح مستمسكًا بالمبادئ والقيم والأخلاق خوفًا على حياة الملايين، نلاحظ في الحوار بين صلاح والبهظ بيه الألفاظ التي يصف بها صلاح البهظ والعند اللامع في عينه والقوي في دفع الشر والدفاع عن الحق بثبات وثقة..

ولكن تحول كل هذا بعد أن تعرض صلاح لحقن الهيروين في جسده، مات ضميره وتبلدت أخلاقه وفقد الشعور والإحساس، حتى خوفه من الكلاب التي حول البهظ بيه بعد أن أصبح مدمنًا تبخر، يتجسد ذلك الانحطاط وفقدان الشعور حينما نجد صلاح مرميًّا أرضًا يمسك بقدم البهظ بيه مترجيًا إياه بأن يمن عليه بالمزيد (الجرعة)

وبعد أن كان صامدًا شامخًا واثقًا أصبح ذليلًا يركض أسفل قدميه مناديًا إياه بمقولة: أنا خدامك

عندما يتهم صلاح البهظ بيه وأمثاله بالدجل

تذهب أفكارك سريعًا نحو فيلم "البيضة والحجر" الذي يظهر هذه النقيصة؛ نقيصة الجهل، جهل المجتمع الذي يساعد الدجالين والمحتالين في أن يربحوا ثروات طائلة من وراء بيع الوهم

عندما قال له صلاح: أنت شيطان

أجابه سريعًا: الناس هما المغفلين وفي شهوتهم غرقانين

واضعًا يده على مكمن الجراح "غفلة الناس"، فإن أفاق الخلق بطل سحر السحرة وخاب سعي الدجالين بائعي الوهم والكيف.

اقرأ أيضًا تعزيز التعاون والتسامح.. كيف يمكننا مكافحة التنمر والحسد في المجتمع؟

ولكن هل أمل إصلاح المجتمع ما زال قائمًا؟ 

الأمر ليس بالهين. يحكي البهظ بيه أنه في الماضي كان يغش الشاي بنشارة الخشب ولكن زاد سعر الخشب فاضطر إلى أن يكف عن غشه ويجعل الشاي طبيعيًّا، ولكنه خسر أمواله عندما فعل ذلك

اعتاد الناس على الفساد حتى نسوا طعم الحق وأصبح طعمه لاذعًا

بعد أن تمكن بائعو الوهم ورسل الفساد من إفساد الذوق العام وتشويه الوعي الجمعي لدى المجتمع بأكمله، أصبح من الصعب بين يوم وليلة أن تصلح هذا الفاسد، فرقعة الفساد قد اتسعت ويلزم وقت حتى تلتئم الجراح.

ما أراد الفيلم قوله

أن الفساد كامن في النفوس متلهب في انتظار الفرصة، وتلك الفرصة تكمن في البيئة الفاسدة إذا وجدها نما واستفحل.

ولا بيئة أخصب من المجتمع الجاهل صاحب الأخلاق المتردية الرديئة، لينمو فيه الباطل ويزهو الفساد.

ولا يخلو هذا المجتمع رغم ذلك كله من قلة ما زالت محافظة على فطرتها وصفاء عقولها وحسن أخلاقها، هي مجرمة إن رضيت الصمت على هذا الوباء، فلا بد من محاربته بكل ما تملك من قوة حتى تشل نموه وحركته، وحتى لا تتبدل فطرة المجتمع وتختل بوصلته الأخلاقية ونسقط في هوة من الظلام الدامس لا قاع لها

لأنه ما دام الصراع بين الحق والباطل قائمًا، يعني ذلك أننا ما زلنا نشاهد طرفين في معركة دامية؛ الحق في جانب والباطل على الجانب الآخر

أما إذا استيأس أهل الحق وحاملوه خلا المشهد للباطل يتربع فارضًا نفسه على أنه الحل الوحيد، فتنمو أجيال بعد ذلك تربَّت على الباطل فإذا جاءها الحق حاربته.

اقرأ أيضًا أهمية وتأثير العلوم الاجتماعية في حياة الإنسان

الثقافة المضادة

والإنسان ذو الفطرة السليمة الناشئ في بيئة فاسدة فرض عليه أن يكون بداخله ثقافة مضادة ليدفع بها ثقافة البلهاء تلك السائدة مستعينًا في ذلك بالانعزال عن مواطن الفساد هذه محاولًا عدم التعرض لهذه الثقافة مطلقًا.

نلاحظ مما شدد السيناريو في إيضاحه هو التعود، وأن كل شيء بالتعود والاعتياد تلين له الآذان وتقبله الأفهام

فليس التاريخ عن قارئ الأحداث ببعيد ليعلم عن اعتراض الجمهور على عبد الحليم حافظ في بدايته الفنية، وأصبح بعد ذلك هو معبود الجماهير والمعبر عنهم!

واعتراض الجماهير على عمرو دياب ومن بعد ذلك ترى أنه يصنف على أنه أفضل صوت في الوطن العربي ويُلقب بالهضبة ويفقد أفراد الجمهور وعيهم إذا ما لامسوه

واعتراض الجماهير على المهرجانات ومن ثم هي الأكثر استماعًا بمئات الملايين

وهكذا تدور

وخليق بكل مصلح أن يلتزم الصراط رغم ما يلقاه في سيره، وليكن طموحه الإصلاح الشامل وإن لم يحقق.

ولكن إذا راود اليأس فكره وتقاعس هو عن وظيفته بحجة أن عصا الفساد قوية فإن ترك الساحة للفساد أعظم مصيبة، وكفى بالصالحين أهل الصلاح والإصلاح أن تكون حياتهم صراعًا دائمًا بين قوى الشر؛ لأن وجود الخير ولو في جحر ضب ذو أثر كبير لا يستهان به

ولنا في قصة الإمام أحمد بن حنبل خير دليل ومثال.

ولكن لماذا؟ 

لماذا قد يتكبد عناء الصراع مع الباطل رجال دون رجال؟ 

في الحقيقة هذا يعود إلى الإيمان بالله ووجود الحياة في عالم آخر غير هذا العالم.

وليعلم أهل الحق أن مكسبهم ليس في هزيمة الباطل، بل الموت على الحق.

اقرأ أيضًا الشلل الفكري للمجتمع

في النهاية

أصبح صلاح مدمنًا، تعلَّم لغة الشارع التي كان يتحدث بها جمال، ولديه ثروة مالية جراء عمله مع البهظ بيه، ولكن رغم هذا نرى أن النهاية سوداوية وأن صلاح خسر المعركة

فماذا خسر صلاح؟ 

في الحقيقة لم أجد أبلغ في بيان أمر كهذا سوى آيات القرآن في سورة الإسراء، يقول الله تعالى: {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}

فالذي خسره صلاح فعلًا هو نفسه

فقد صلاح نفسه التي بين جنبيه. خسر المبادئ التي تربى عليها والقيم التي حافظ عليها والأخلاق التي ورثها من والده.

فقد بوصلته في الحياة.

فقد هدفًا ساميًا يحيا من أجل تحقيقه، وأثرًا نافعًا يتركه خلفه

وكيف لمثل هذا المدمن أن يربي فيما بعد أبناء أسوياء

المصلح بوصلته تكون الآخرة، هذا ولا بد أن يقترن الإصلاح في الأرض بالإله والدين.

لأنه لا عون للمصلح ليتكبد كل هذا العناء في الحياة نتيجة تمسكه بالمبادئ والأخلاق سوى أن يكون فعله الإنساني مربوطًا بأمنية أخروية.

ومن العجيب...

بعد نزول الفيلم صالات السينما ونجاحه بتفوق، عبَّأ صناع الفيلم النغمات التي كانت في الفيلم في أشرطة وطرحوها في الأسواق، ومن الأعجب أن تحقق مبيعات طائلة

ركَّز الفيلم على نحو واضح على أهمية تمسك المجتمع والأفراد بالأخلاق، وقارن بين غياب الأخلاق والانحطاط والتردي. والأخلاق مستمدة من الأساس من الأديان

وركز الفيلم أيضًا على تأثير المجتمع عندما يكون بمثابة حظيرة خصبة للفساد على الفرد الصالح وفي تحويله ضمن فرد من الفاسدين.

في قصة أخرى وفيلم آخر، وهو "درب الهوى" نستطيع أيضًا أن نلمس التغير الكبير الحادث في الشخصيات نتيجة البيئة الفاسدة من حولهم.

فنرى (سميحة) فتاة عادية، هربت من أبيها بسبب زوجة أمها وما تتعرض له من جانبها (تأثير المجتمع).

يستغل الرجل الذي من المفترض أن يهرِّب سميحة ويجد لها عملًا شريفًا كما كانت تقول ويذهب بها إلى درب أطياب (لوكاندة البرنسيسات) لتعمل في بالبغاء

ترفض سميحة وتحاول الهروب، ولكنها تصدم بما حدث لمن سبقتها وحاولت الهروب

تستسلم سميحة للأمر الواقع وترضخ له بعد أن علمت أن ليس لها من منجى.

من ثم تتعلق بأمل وهو في الحقيقة وهم، ولكن بسبب طيبتها تقع في حب شخص ممن اعتادوا ارتياد اللوكاندة

ومع تتابع الأحداث وتطور الشخصيات نرى التحولات في شخصية سميحة رغبة منها في مجاراة البيئة والأشخاص من حولها، فتكذب وتلعب بمشاعر المعلم صالح وتسرق دهب المعلمة حتى يصل التطور في الشخصية إلى ذروته بعد أن تكشف خديعة الشاب الذي أحبته وضحَّت من أجله فتقتله

نلمس في تطور شخصية سماح تأثير المجتمع والبيئة من حول الشخص عليها

لذلك يجب أن يكون مسلك الأشخاص الأسوياء إصلاح المجتمع

في النهاية؛ هذا المقال ويتبعه عدد آخر من المقالات كنت قد دونتها تحت عنوان "ثرثرة فكرية في إطار فني"، وهي في الأصل كُتبت لتخرج في كتاب، ولكني آثرت أن أنشر المقالات متفرقة حتى يحين الوقت المناسب واكتمال الرؤية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة