طعم الحياة هو السر القابع وراء استمرارية الحياة، فلو فقدت الحياة طعمها لتاهت وضاعت الرغبة في الاستمرار أو العيش، لكن ما الذي يعطي الحياة طعمًا؟ هل هي الملذاتُ والشهوات مثل المأكل والمشرب والمعشر وهي كلها لغات جسدية تترجم بإشارات طبيعية وكيميائية.
أم ما وراء شهوات الجسد من مساعي العقل والفكر والمنطق وهي ملكات تسعى في البحث عن معنى أو معاني الحياة، وتَكدُّ لخلق معنى أو هدف لهذه الحياة يقودنا للفعل ويشعرنا بوجودنا وقيمتنا، أم المشاعرُ والأحاسيس الوجدانية التي تعطينا غذاء روحيًا ومعنويًا، وقد تصبح الحياة دونها صحراء جرداء هي والعدم سواء؟
اقرأ ايضاً طرق فعالة للتخلص من المزاج السيء
ما الذي يعطي الحياة طعماً؟
يتغير طعم الحياة بناء على متغيرات الزمن في رحلة الحياة، فطعم الحياة في الطفولة يختلف عن طعمها في سن الشباب وعن طعمها في سن العمل وما بعد سن العمل، أما طعم الحياة في سن الطفولة فيتوقف أكثر على ما يقدمه الآخرون لنا من رعاية وحب وحنان وأحداث، فنكاد نكون متذوقين لما يقدمه الآخرون.
لكننا في الوقت نفسه نبدأ باستكشاف بعضٍ من أنفسنا بطريقة تفاعلنا وإحساسنا بما يقدمه الآخرون لنا، فبعضنا يعيش طفولة سعيدة، وبعضنا تمر طفولته حزينة كئيبة نتيجة اختلاف السياق الاجتماعي لكل فئة.
من محاسن الأقدار أن معظم الأسر تحاول أن تضع غاياتها القصوى في خلق إطار صحي سليم لأطفالها مهما كانت الظروف الاجتماعية مواتية أم غائبة، أما سن الشباب فهو عمر التحديات واكتشاف الذات وخلق المصير.
فيه يتشكل طعم الحياة من النجاح في التغلب على التحديات واختيار المصير، في هذه المدة تتفتق قدراتنا العقلية وتمر عبر بوابات كثيرة من الاختبارات التي قد نجتازها مرة وقد نتعثر فيها مرة أخرى.
في كل مرة يتولد طعم لذيذ أو مرير للحياة، في المرحلة نفسها تنطلق عواطفنا الإنسانية، ونبحث عن شريك نواصل معه رحلة اكتشاف الحياة، ونجاحنا في هذا المنحنى يضفي مزيدًا من الطعم على حياتنا، ثم تبدأ سنين الحياة العملية التي ندخل فيها مسار العمل ومرحلة تكوين أسرة جديدة في ظل ومناخ عوامل جديدة.
يتوقف طعم الحياة في هذه المرحلة على نجاحنا في الحياة العملية والحياة الأسرية الاجتماعية والتغلب على تحديات الفشل والنجاح والصراع الاجتماعي الدائم مع الآخرين.
اقرأ ايضاً كيف أجعل نفسي سعيدًا؟
كيف تصنع طعمًا لحياتك بعد ترك قطار العمل؟
نحتاج دائمًا أن نحافظ على حياتنا صحيةً عفويةً ديناميكيةً؛ لذا يجب أن نتحقق من وجود طعم ومذاق خاص بها، ومع تبدل الأزمان قد يتغير طعم حياتنا دون إرادة منا أو قد يختفي ويبهت تمامًا، فكثير من هذا المذاق يعتمد على الصحبة الاجتماعية والبيئة الحاضنة، وكلاهما يتغير بفعل الزمن.
كم من الأشخاص والأحداث التي ارتبط وجودها وحدوثها بفعل الزمن قد ولّت وأفلت، وكم من متغيرات بيئية وثقافية قد طرأت ورسخت، فأين نحن وأين مذاق حياتنا من كل هذا؟
نحن دائمًا في مهب ريح الزمن، ويجب دائمًا أن نجدد حياتنا ونصنع لها المعنى والجدوى والمذاق، لا ولن يتوقف الزمن أبدًا، وعلينا أن نجد أنفسنا دائمًا في قطار الزمن وليس خارجه، سنجد بلا شك آلاف الدروب والمسالك كي نصنع طعم حياتنا، لكنها تدور دائمًا حول محور أساسي.
أن نجد لحياتنا أهدافًا في أي لحظة زمنية، فكثير ممن يخرجون من قطار زمن العمل الرسمي يتوقفون ويجلسون على رصيف المحطة، ولا يركبون القطار ثانية، ويتخيلون أن نهاية هذا القطار هي النهاية الرسمية للحياة، وأنهم دخلوا إجازة طويلة في انتظار لحظة الرحيل من الحياة.
هذا ما درج عليه كثيرون في الشرق والغرب عدا أقلية ترفض أن تغادر قطار زمن العمل الرسمي، لكن الحياة ليست هي زمن العمل الرسمي، الحياة ترتبط بوجود هدف لها، وهذا الهدف هو الذي يدفعنا إلى العمل لتتوالى الأحداث التي تخلق طعم حياتنا.
إذن وجود الهدف هو الفاعل الرئيس والخالق لحركة الحياة ومذاقها، فهل من الصعب أن نخلق هدفًا لحياتنا في أي لحظة سواء كنا في إطار زمن العمل الرسمي أم خارجه؟ بكل تأكيد نستطيع، ولن يستطيع أحد أن يخلق لنا أو يحدد لنا أهداف حياتنا، نحن نستطيع، فنحن من خَبِرْنا حياتنا، ونحن من ندرك قيمة الأهداف التي نختارها ومعناها حسب خلفية خبراتنا الحياتية.
ضع هدفاً لحياتك
نستطيع دائمًا أن نصنع طعمًا لحياتنا بأن نُوجد لها هدفًا ومعنى، فلا نتوقف أبدًا عن صنع أهداف في حياتنا، وفي أثناء وضع الهدف والعمل على تحقيقه، وفي أثناء تحقق الهدف سينطلق طعمٌ خاصٌ لحياتنا يتوقف على قدر عملنا واجتهادنا والظروف المحيطة والآخرين.
يتوقف طعم الحياة على المرحلة العمرية التي نمر بها، فيختلف طعم الحياة في زمن الطفولة عن زمن الشباب عن حقبة النضج عن مرحلة الكهولة والانسحاب، لكن يوجد خيط واحد يربط كل هذه المراحل، يختزن الخبرات والنجاحات عبر الزمن في وجداننا، لكننا في كل لحظة قادرون على صنع طعم حياتنا بالعمل والاجتهاد.
اقرأ ايضاً رحلتك نحو الايجابية فى غضون 5سلالم فقط
لماذا تفقد الحياة طعمها؟
لا شك أن طعم الحياة يتكون ويترسخ في وجداننا من الأشخاص والأمكنة والأحداث التي نمر بها عبر رحلة الحياة، وما يترتب عليها من قناعات وقيم ومبادئ؛ لذا فإن أي حدث أو مؤثر يجرح تكامل وانسجام هذا النسيج يؤثر بلا شك في طعم الحياة الذي تعودنا عليه وأحببناه، فغياب أحد المقربين عن مسرح الحياة يفقدنا كثيرًا من طعم الحياة، وغياب الأمكنة التي ارتبطت بذاكرتنا بأحداث جميلة يكلفنا كثيرًا من طعم الحياة.
ومن أكثر ما يفقدنا طعم الحياة هو غياب الأحداث؛ لأنها هي التي تصنع عصير الحياة، أما أكثر ما يفقدنا طعم الحياة على المستوى الشخصي هو عدم قدرتنا على صنع الأحداث أو المشاركة فيها لارتباطها المباشر بإحساسنا بوجودنا.
كيف نسترد الطعم الضائع للحياة؟
نستطيع تعويض غياب الأشخاص المؤثرين عن مسرح حياتنا بزيادة التفكير في القيم والأحداث الجميلة التي تركوها في حياتنا، وإعادة إحياء هذه القيم وإيصالها إلى الآخرين، أما غياب الأمكنة الجميلة عن حياتنا فيمكننا تنظيم الزيارات إليها، واسترجاع الذكريات المرتبطة بها كلما أمكن.
والمهم أن نسعى دائمًا في كل لحظات حياتنا إلى أن نخلق الأحداث والقيم، وأن نحلم دائمًا بتحقيقها، نحن نستطيع أن نشارك ونتفاعل ونسهم، لكن الأكثر أثرًا أن نكون نحن الصانعين للأحداث، فهذا ما يعطي إكسير الحياة الذي لا ينضب ولا ينتهي.
اقرأ ايضاً خمس كتب غيرت نظرتي للحياة
اصنع سعادة الآخرين
ربما أتى الوقت لنسهم أكثر في صنع سعادة الآخرين، لو جعلنا هذا هدفنا لكنَّا أول الرابحين، فعندما ننجح ولو لمرة في صنع سعادة الآخرين فستمر علينا لحظات عدة نحس فيها بطعم الحياة، فقد نشعر بالسمو؛ لأننا خرجنا من حدود سجن الذات إلى رحابة حدود الكون.
قد نشعر بالسعادة وطعم الحياة عندما نحس بتأثيرنا الإيجابي في سعادة الآخرين، قد نحس بطعم لذيذ للحياة عندما نرى رد الفعل الإيجابي من الآخرين تجاهنا؛ لأننا ساعدناهم.
قد نحس بذلك من مجرد كلمة أو نظرة أو لمسة، لكن تأثيرها العاطفي والشاعري ليس له حدود، والأكثر من ذلك قد نحس بالأمان العام في حياتنا؛ لأننا خلقنا جوًا من الحب والتسامح والود بيننا وبين الآخرين، وهذا الإحساس بالأمان لا يعطينا طعمًا لذيذًا للحياة فحسب، بل طعمًا آمنًا مستدامًا؛ لذا أسهم في صنع سعادة الآخرين لا سيما هؤلاء الذين لا نعرفهم، وليس لهم سند أو واسطة في الحياة.
الهدف هو زرع السعادة في حياة الجميع، واستئصال داء الأنانية وسجن الفردية البغيض، فصنع سعادة الآخرين هو الحل السحري لنخلق عالمًا آمنًا وديعًا يعيش فيه الجميع دون ألم أو جوى.
سبتمبر 3, 2023, 5:39 م
اسعد الله مسائكم أستاذنا الفاضل دكتور محمود
مقال رائع وفي تقدم باستمرار وتحياتي لكم بالتوفيق ان شاء الله
سبتمبر 5, 2023, 5:12 ص
خالص تحياتي دكتور ممدوح
سبتمبر 3, 2023, 6:36 م
مقال مفيد وجميل.
سبتمبر 5, 2023, 5:12 ص
شكرا علي المتابعة الفعالة
سبتمبر 9, 2023, 1:47 م
رهيب المقال يادكتور بالتوفيق واتطلع لقراءة المزيد من ابداعاتك 👏🏼
سبتمبر 11, 2023, 3:55 ص
الله يكرمك أستاذة سلمي..سعيد بتعليقك الخاطف
سبتمبر 13, 2023, 4:32 ص
مقال رائع و هادف و مناسب للكثيرين
سبتمبر 16, 2023, 2:54 م
خالص تحياتي وشكري لهذه الإفادة المعنوية الهائلة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.