عند النظر في تطور الصناعة على مستوى التاريخ البشري فإننا نلاحظ أنه كلما حدثت ثورة صناعية كبيرة كان لها تأثير كبير في الوظائف التي تؤثر بدورها في البنية المادية والاجتماعية للمجتمعات، ما يغير هويتها كاملة، وها نحن نعيش بداية ثورة صناعية جديدة، فإلى أي مدى قد تتأثر الوظائف الصناعية في المرحلة المقبلة؟
سؤال يحتاج إلى شرح وتبسيط، وإجابة نقدمها في هذا المقال الذي يستعرض ملامح الثورة الصناعية الرابعة، وتأثيراتها في الوظائف، والآثار الاجتماعية الناتجة عن ذلك التغيير.
تاريخ الثورات الصناعية
لنفهم ما يحدث بأسلوب مبسط لا بد أن نلقي نظرة إلى تاريخ الثورات الصناعية، فكانت الثورة الصناعية الأولى التي حدثت في بريطانيا في القرن الثامن عشر نتيجة اختراع المحرك البخاري الذي أدى بدوره إلى مجموعة أخرى من الاختراعات التي غيرت تمامًا نمط العمل والإنتاج؛ وعلى هذا انتقل من الإنتاج التقليدي إلى الإنتاج الصناعي الحديث، وما تبعه من هجرة كبيرة من الريف إلى المدن، ما غيّر شكل البنية الاجتماعية، وأثر كثيرًا في مستوى المعيشة ودخل الأفراد.
أما الثورة الصناعية الثانية فكانت في منتصف القرن التاسع عشر التي كانت الكهرباء سببًا كبيرًا في حدوثها، فدفعت عجلة الإنتاج إلى مرحلة الإنتاج الكثيف والصناعات المتطورة، بالإضافة إلى ظهور صناعات جديدة مثل صناعة الهاتف والمصباح الكهربائي والنفط ومحركات الاحتراق، ما أدى إلى ظهور وسائل مواصلات جديدة ووسائل اتصال سلكية وغير سلكية.
ما أدى بدوره أيضًا إلى تغير كبير في نمط الحياة، وتحول عدد من الدول من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية، وأيضًا أدى إلى ارتفاع كبير في نسبة سكان المدن، وهو تغيير ملحوظ نتيجة الثورة الصناعية الثانية.
وفقًا إلى الثورة الصناعية الثالثة التي يمكن تسميتها بالثورة الرقمية يجرى التأريخ لها من خمسينيات القرن الماضي مع ظهور الكمبيوتر وتطور التكنولوجيا وتعدد الأجهزة الإلكترونية وتطورها على نحو سريع، ثم ظهور الإنترنت، ما أدى بدوره أيضًا إلى تطورات وتغيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة جدًّا، وأيضًا أصبح التغيير أسرع من قبل نتيجة الطفرات الكبيرة التي حدثت على مستوى وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات.
الثورة الصناعية الرابعة
مصطلح (الثورة الصناعية الرابعة) ظهر للتعبير عن توقعات قريبة لانصهار مكتسبات التطور التكنولوجي والرقمي والفضاء السيبراني كلها واندماجها في الصناعة لرفع الكفاءة الإنتاجية، وتقليل تدخل العنصر البشري إلى أقل مستوى، وهو المصطلح الذي ساعد كثيرًا على ظهوره الطفرةُ الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي والتجارب ذات النتائج المبشرة التي تَعِد بتغييرات كبيرة في مجال الصناعة والعمليات الإنتاجية، ما يمكن تحديده في مجموعة من العناصر، مثل:
- التحكم بعمليات الإنتاج تحكمًا آليًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي دون تدخل البشر في عمليات التوريد الأولي، ومرورًا بمراحل الإنتاج وضبط الجودة حتى وصول المنتج إلى الصورة النهائية.
- تقليل كبير في زمن العمليات الإنتاجية وتحديد الأعطال بكفاءة وسرعة، وإيجاد الحلول والعلاجات دون خسائر كبيرة، بالإضافة إلى ضمانات عالية بعدم تكرار الأخطاء والأعطال، ما يدفع الكفاءة الإنتاجية إلى أعلى مستوياتها.
- الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في بناء أنظمة ذكية تستطيع معالجة الأوامر دون الرجوع إلى العنصر البشري، فتتلقى الطلبات من العملاء وتعمل عليها، بالإضافة إلى تلبية الاحتياجات، وإجراء التعديلات ذاتيًا، ما يوفر الوقت والجهد والمال والجودة العالية.
- التفاعل مع المتغيرات المفاجئة وغير المتوقعة، وقياس الظروف المحيطة بمراقبة البيانات ونقلها وتسجيل أنماط المعدات والتنبؤ بالأعطال، ما يعزز فكرة المصانع الذكية، ويجعلها ليست مجرد خيار في المرحلة القادمة، وإنما واقعًا لا بد من التعامل معه من أجل البقاء والتنافسية.
حقائق عن الثورة الصناعية الرابعة
- تشير الأرقام إلى زيادة الإنفاق زيادة كبيرة في الذكاء الاصطناعي المرتبط بعمليات الإنتاج الصناعي، ويتضمن تقرير مؤسسة (Guide Spending) معلومات عن إنفاق الشركات والمؤسسات في عام 2022م الذي تخطى 77 مليار دولار في العام نفسه لدمج الذكاء الاصطناعي في خطوط الإنتاج.
- تتوقع زيادة الإنفاق مع النمو المتسارع والاتجاه إلى المصانع الذكية في السنوات القادمة، فقد يصل الإنفاق العالمي عام 2030م إلى تريليون دولار، وهي استثمارات في الصناعة الذكية.
- تعد الصناعة الذكية أيضًا أحد الحلول العالمية للتقليل من انبعاثات الكربون التي قد تصل في يوم من الأيام إلى تحقيق صفر نفايات مع كفاءة عالية في إخراج المنتج النهائي، والوصول إلى الأسواق، وتحقيق نمو كبير وتمدد في المجال الصناعي عامة حتى يصل إلى 300% في غضون عشر سنوات فقط.
تعد دول الصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي اللاعبين الكبار في صناعات الجيل الرابع التي تمتلك معظم حصة السوق الخاص بالروبوتات الصناعية وعمليات أتمتة المصانع والاستثمارات الكبيرة في قطاعات الصناعة الذكية والذكاء الاصطناعي، ما يجعل هذه الدول صاحبة القدرة التنافسية العالية، وعلى هذا التحكم بالثورة الصناعية الرابعة والاستفادة منها وتوجيهها على نحو كبير.
الثورة الصناعية الرابعة ومستقبل الوظائف
كما أوضحنا أن كل الثورات الصناعية حملت معها تغيرات كبيرة في البنية الاجتماعية والاقتصادية وربما السياسية أيضًا، فمن المتوقع أن تحمل الثورة الصناعية الرابعة تغييرات كبيرة على مستوى البنية الاجتماعية.
وحين نتحدث عن الوظائف فإن التوقعات تشير إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته وتقنياته المختلفة سيؤدي بالتأكيد إلى اختفاء عدد من الوظائف، ثَمّ فقدان الملايين من الناس هذه الوظائف.
تشير التوقعات إلى أن الثورة الصناعية الرابعة ستؤدي إلى فقدان نحو 150 مليون وظيفة حتى 2040م، وأن عدد الوظائف التي سيفقدها البشر لمصلحة الآلات في السنوات الخمس القادمة قد يصل إلى 85 مليون وظيفة، وهذه الأرقام صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي، والإحصائيات الخاصة بالشركات تشير إلى أن أكثر من 43% من الشركات الكبرى تنوي تخفيض العمالة في مقابل الاعتماد على التكنولوجيا.
أما إحصاءات البنك الدولي فتشير إلى أن عدد الروبوتات التي تؤدي وظائف صناعية يزداد بمقدار 9% سنويًا، لا سيما في الصناعات المتقدمة والدقيقة، وهو الرقم القابل للزيادة مع نمو الذكاء الاصطناعي على مستوى الابتكار والتطبيقات الجديدة، ما يحمل قلقًا كبيرًا للموظفين في قطاع الصناعة.
ومع هذه الأرقام والإحصاءات التي تشير إلى فقدان البشر وظائفهم لمصلحة الآلات، فإنها أيضًا توضح الزيادة الكبيرة في حجم العمل والقدرة الإنتاجية، ما يشير بدوره إلى ولادة عدد من الفرص والوظائف الأخرى التي لا تستطيع الآلات فعلها لا سيما ما يخص الإبداع والابتكار والتفاعل والأعمال الاجتماعية؛ لأن الآلات تمتلك ذلك النوع من الذكاء العاطفي والقدرات البشرية الاستثنائية، بالإضافة إلى نوعية أخرى من الوظائف التي تحتاج إلى كفاءة علمية عالية؛ مثل وظائف التسويق الرقمي وتطوير البرامج والتدريس والتدريب وصناعة المحتوى وتحليل البيانات.
وهكذا فإن الأمر يحتاج من العاملين إلى كثير من العمل لصقل المهارات وإعادة التأهيل واكتساب المعارف والمهارات الجديدة من أجل التعامل مع الواقع الجديد الذي نشير إليه بالثورة الصناعية الرابعة، وهو ما يحمل الدول والحكومات مسؤولية كبيرة من ناحية التخطيط والتعليم والتدريب والإعداد، وكذلك الأفراد من ناحية أخرى في اكتساب المرونة والقدرة على التعلم ومواكبة العصر بشتى الوسائل.
وفي الختام فإن مقالنا عن الثورة الصناعية الرابعة وتأثيرها في فرص العمل بمجال الصناعة ليس الغرض منه أبدًا الدخول في حالة من التشاؤم أو الفزع من الواقع الجديد، وإنما هو توضيح للمشهد الذي بدأ يتكوَّن على مستوى العالم، ودعوة إلى التفكير والاستعداد للتعامل مع هذا الواقع قبل فوات الأوان.
ويسعدنا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال عبر مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.