لعمرك كأنك إذ تسألني كيف أصبحتُ لا تدري؛ فاعلمَنْ إذن: قد أصبحتُ أنتظر الأجل، وقد أبطأ علينا..
وهل الحياة إلا رحلة إلى دار المقام؟
فيُرجَى انقضاؤها، ولا يؤمَلُ منها إلا بلوغُ الغاية، أمَا وقد طالت الشُقَّة، وقل الزادُ والعتادُ؛ فالقصدَ القصدَ، وأن تُحَطَّ الرحالُ.
ولا وربِّ البيت، ما أصبحتُ من الله إلا في عافيةٍ وسِتر؛ فلا مرض ألمَّ ولا نائبة، وما همي من أسْرٍ ولا فقرٍ ولا هتيكة..
ولم يزل ربي ستيرًا حليمًا، لطيفًا في قضائه، رحيمًا في ابتلائه؛ أعصي فيغفر، وأفجر فيعذر، وأحيد ولا يحيد، وأخون ولا ينفكُّ حافظًا عهدَه..
فيرزق غير ضنين، ويمُنُّ فيُعين، ويسمع الدعاء، ويرفع البلاء، وأنا أفقر إليه وأحوج، وهو عني أغنى الأغنياء..
وإني والله لفي نعمة منه وفضل غير شحيح ولا نزر؛ إلا أن النفس قد رأت من زمانها ما اشتد وقعُهُ عليها، ولقيَت من مجتمعها ما لا يسعد به خافِقٌ شاعِرٌ، ولا يطمئن به رأسٌ عاقلٌ مفكر، غير جاهلٍ ولا غافل.
وإني والذي نفسي بيده لأغتربُ بين يدي قومي وذويَّ كما اغترب النبيون في أرهاطهم، والصحابيُّون في بيوتات أهليهم وعشائرهم..
عدا أن أولئك كان أملهم في الوُحِيِّ وما تتصل بهم السماء، وأما أنا فما أملي إلا أن يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا..
فيهلكَ هالكٌ بفجوره، أو ينجوَ ناجٍ برحمة المولى عليه، وإن هي إلا سِنِيُّ قلائل، حتى تكونَ الوقائعُ والبلابل.
ألا إن أيام الدهر تهتَّكت، وإن الأرض بعُمَّارها فسدت، وإن الخير لقليل، وإن الشر لكثير، وإن الحق لخفيٌّ هزيلٌ -على قوته..
وإن الباطل لظاهر -على وهنِهِ-، والآمرُ بالمعروف يُجَهَّلُ ويضرُّ، والداعي إلى النُكرِ يُعزُّ ويُبَرُّ، والعامل بالفضيلة غريبٌ مُستنكَر يصدفُ العالَمون عنه، والمُقترفُ الرذائلِ مألوفٌ مرجوٌّ يؤتى إليه من البقاع جُلِّها.
يستترُ الصالحُ من جهالة القوم بصلاحه، ويجهر الفاحش بالجهالة جريئًا بها، قد أمِنَ أن يُرجَمَ بسوءٍ أو يُردَعَ بعقوبة؛ ألا أي محزنةٍ على القلب أعتى؟
وأي مصيبة أحرى ببؤسه واكتئابه، وما زالت الأمم بخير -وإن هي وهنت أقواتها وضعفت شوكتها- ما لم تُصِبْ في دينها بليِّةٌ، ولا في أخلاقها رزيِّة؟
فإن أصابا -وإن يكُ كل شيء دونهما رخاء ورفاهًا-، فقد والله هلكت وقد حضرت من حيث لا قوى تعينها ولا مال يرفعها.
اقرأ أيضًا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.