أسواق هنا وهناك، باعة جائلون وباعة في المحال وفي المتاجر الكبيرة، أصوات تنادي على البضائع، حالات من الرواج التجاري وحالات من الركود. هكذا كان الحال التجاري في عصر المماليك. فإن كنت تسأل كيف أصبحت مصر مركزًا تجاريًّا في عصر المماليك؟ فأنت هنا في المكان الصحيح.
كما اهتم المماليك بتقوية الجانب العسكري والسيطرة على كثير من البلاد، اهتموا أيضًا بالجانب التجاري. فمن ضمن الأسباب التي كانوا يفتحون البلدان من أجلها هي الحركة التجارية والترويج للسلع في أماكن غير موجودة فيها، وكانت تجارتهم ممتدة خارج السلطنة المملوكية.
كيف أصبحت مصر مركزًا تجاريًّا في عصر المماليك؟
إن تجولت في القاهرة القديمة، فسوف تجد كثيرًا من المباني الأثرية ليست منازل ولا جوامع ولا مدارس، بل هي وكالات مثل وكالة الغوري. وهي تلك السوق التي بناها السلطان الغوري في أواخر عصر المماليك البرجية. وبسبب هذه الوكالة -وكثير من الأسواق- أصبحت مصر مركزًا تجاريًّا في عصر المماليك، فكانت تفد عليها القوافل من كل حدب وصوب من داخل الديار المصرية ومن خارجها.
وكانت مصر أيضًا مركزًا تجاريًّا في عصر المماليك على المستوى الدولي. فنحن نعلم جيدًا أن دولة المماليك كانت تضم الشام ومصر وأجزاء من شبه الجزيرة العربية، ويعني ذلك أن الحركة التجارية في العصر المملوكي كانت تشق كل هذه المناطق والطرق الخاصة بها.
وحصَّل المماليك المكوس من القوافل التجارية التي كانت تمر من هذه المناطق، بل وتم إعداد المواني لكي تستقبل البضائع القادمة من أوروبا، ولكي يتم إرسال البضائع إليها. ومن الأمور التي تجلَّت فيها التجارة في العصر المملوكي ومدى تمددها آنذاك هي تلك الوكالات التي بقي منها قليل الآن.
فمع مرور الزمن، ومع التمدد العمراني في القاهرة عبر القرون، كان لكل عصر بصمته في التمدد العمراني، وقد تأثر عدد من هذه الوكالات والمباني التجارية، ويسعى كثيرون من محبي الآثار إلى زيارة هذه المباني لكي يستشعروا شكل الحركة التجارية آنذاك. ويمكن أن تشعر بها عندما تزور المناطق الأثرية مثل شارع المعز وحارات خان الخليلي وغيرها من الأماكن التي يتكاثر فيها البائعون، ويبيعون كل الصنوف والأشكال من السلع.
ونجد أنه كان في زمن المماليك أسوق لأنواع معينة من البضائع، فتجد مثلًا سوق الذراع، وهي سوق متخصصة في بيع الأقمشة؛ وقد سميت هذه السوق بهذا الاسم نظرًا لأن القماش كان يُقاس عن طريق الذراع. وتجد أيضًا منطقة بين القصرين التي كانت من الأسواق الرائجة في عصر المماليك، وهي أيضًا من الأسواق المعروفة إلى يومنا هذا، ويفد عليها آلاف الزائرين يوميًّا سواء من أجل السياحة أو من أجل التسوق وشراء ما يلزم.
لماذا أصبحت مصر مركزًا تجاريًّا في عصر المماليك؟
ذكرنا في السطور السابقة أن مصر كانت مركزًا للتجارة على مستوى الإمبراطورية المملوكية أو حتى على مستوى العالم. وتُعد الوكالات مثل وكالة الغوري من أكثر الأماكن التي عززت هذه المكانة المصرية في الحركة التجارية داخل الديار المصرية وخارجها.
ونذكر مثلًا تجارة القهوة. حيث كان يتم استيراد البن من اليمن وعرضه في وكالة بازرعة التي كانت مخصصة لهذا الغرض. وقد أشرنا سابقًا أنه كان يوجد وكالات وأسواق مخصصة؛ فمن يريد القماش يذهب إلى وكالة أو سوق بعينه، ومن كان يريد السلاح فكان يذهب إلى وكالة أخرى، ومن كان يريد البغال والخيل فكان يذهب إلى السوق المتخصصة، وهكذا.
ازدهار التجارة الدولية في عصر المماليك
اعتمد الاقتصاد في العصر المملوكي على التجارة أكثر من مجالات أخرى مثل الصناعة والزراعة. وأيضًا إلى جانب التجارة كان يعتمد على جباية المكوس على البضائع التي كانت تباع في الأسواق الكبيرة وفي كل الأسواق عمومًا. ولكن بالطبع كانت توجد مكوس أعلى بكثير في الأسواق الكبيرة عن تلك التي توجد في الأسواق الأصغر.
ومن أسباب ازدهار التجارة الدولية في عصر المماليك أن مصر كانت هي المتنفس الوحيد تقريبًا لحركة التجارة حول العالم. فإذا نظرت في الغرب وعلى الرغم من الحملات الصليبية التي كانت تبدو من الوهلة الأولى أنها صورة من صور اتحاد القوى الغربية ضد القوى الشرقية المسلمة، لكن التناحر كان في ذروته في العصور الوسطى في أوروبا.
وهذا ما جعل بعض المؤرخين يسمون هذه الفترة الزمنية بالعصور المظلمة؛ لأنها سبقت الثورة الصناعية التي صنعت الأفضلية الأوروبية التي نعيش آثارها حتى الآن.
وعلى الناحية الأخرى كان التناحر بين الإمبراطوريات التي كانت توجد في الشرق آنذاك، وهذا بخلاف الاجتياح المغولي لمعظم الأمم التي توجد في هذه البلاد، وبسبب الفساد المستشري بها وكثرة العبيد المهاجرين إلى بلاد الشرق وتحديدًا مصر والشام، فكل هذا كان يعمل على غلق الطرق التجارية في هذه البلاد، في حين كانت مصر في عهد المماليك هي حلقة الوصل بين الشرق والغرب. وهذا من أسباب ازدهار التجارة الدولية في عصر المماليك.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.