كيفيَّة التعامل مع صعوبات التعلُّم واضطراباته

كتبت في مقال سابق عن صعوبات التعلم واضطراباته. وتتمة له أركز في الجزء الثاني على المناهج المتبعة في علاج صعوبات التعلم واضطراباته، وأقترح بعض الحلول لهذه المشكلات التربوية.

الحل ليس في الرسوب

الرسوب ليس حلًّا لصعوبات التَّعلم واضطراباته كما يفكر بعض المربين أو كما تراه المدرسة الكلاسيكيَّة انتظارًا من أنَّ إعادة السنة الدراسية ستكون سببًا لإصلاح وضعية التلميذ؛ إذ تمكنه هذه الفرصة الجديدة في نظرهم من التدارك. ولكن ذلك عند كثير من الباحثين بداية لسوء العلاقة بالمدرسة.

فالرسوب في نظر التلاميذ من أشد العقوبات المدرسية وأتعس الإقصاءات. ومن يريد إضاعة عام كامل من حياته، ويرى نفسه محتقرًا بين زملائه ومحيطه الاحتماعي؟ وقد ينتج عنه التفكير في الانقطاع عن الدراسة أو الانقطاع الفعلي عنه، أيضًا فإنَّ للراسب تقديرًا للذات ضعيفًا، وقلَّة نادرة جدًّا تستفيد فعلًا من الرسوب. صحيح أن كثيرًا منهم ينجحون في السنة الموالية؛ ولكن الأغلبية الساحقة منهم بمعدلات متوسطة؛ ما يدل على أن التلميذ لم يتجاوز صعوباته فعلًا. ويعد هؤلاء الباحثين أنَّ الرسوب جزء من المشكلة وليس حلًّا لها.

الرسوب في نظر التلاميذ من أشد العقوبات المدرسية

مراحل معالجة صعوبات التعلم واضطراباته

يعتمد كثير من الباحثين التربويين على المنهج الطبي في علاج أنواع صعوبات التعلم، بدءًا باستعمال كلمة علاج إلى الاعتماد على طريقة كشف المرض وتقديم الدواء. ويمكن تلخيصها في أربع مراحل:

1 – الكشف Le dépistage

الخطوة الأول هي اكتشاف الحالات التي تعاني من صعوبات التعلم، ومن الأفضل كشفها مبكرًا قبل أن تظهر في نتائج التلاميذ وتستفحل؛ حتى يقع تداركها بسهولة، والوقاية من صعوبات التعلم واضطراباته على الرغم من عسر ذلك بالتعرف على الفئة التي يمكن أن تكون أكثر عرضة من غيرها لهذه الظاهرة خير من العلاج.

وعادة ما يقوم المدرس بالكشف، ويكون عادة بالمقارنة بين السلوك التعلمي العادي أو السلوك التعلمي المنتظر وسلوك التلميذ التعلمي؛ فيرى فيه الأستاذ نوعًا من التأخر عن المنتظر أو بقيَّة التلاميذ.

وقد يكتشف ذلك ولي الأمر أيضًا وتظهر على التلميذ في تصرفاته، إذ تنتكس الصعوبات في كثير من الأحيان إلى حالات اضطرابات وحزن واكتئاب وضعف صورة الذات التي تدفعه إلى الانطوائية وأحيانًا أخرى إلى العدوانية، ويصبح التلميذ يتجنب التواصل، ثمَّ يفقد الاهتمام بالعمل المدرسي. وكل هذه التصرفات ناتجة عن اكتشاف التلميذ صعوبات مدرسية يحاول تجاوزها؛ فتثقل عليه وترهق كاهله ولا يجد معينًا، ويخجل من المصارحة بها.

2 – التشخيص Diagnostic

المرحلة الثانية هي التشخيص الدقيق للحالة وتحديد درجتها ومدى استفحالها، وتتطلب تدخل أطراف عدّة أخرى، إضافة إلى المربي للتعرف على الأسباب وكيفيَّة العلاج، ويُستعان بالمختصين وبالمراكز المختصة.   

ويستعمل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي IRMF في تشخيص أعراض اضطرابات التعلم، ويهتم علم الأعصاب التربوي Neuroéducation بهذا الجانب. وفيما يلي تشخيص لاضطراب القراءة بواسطة الماسح الضوئي (السكانير).

نشاط مناطق الدماغ

تُظهر الصورة أعلاه الفارق في نشاط مناطق الدماغ عند من يعاني من اضطراب القراءة (على يمين الصورة) والقارئ العادي، وهي أقل عددًا عند الأول وأكثر تقلصًا.

وفي صورة الماسح الضوئي (السكانير) المعروضة أدناه تبين الصورة A تنشيط الدماغ المتوسط عند مجموعة ممن لا يعانون اضطراب القراءة، والصورة B تنشيطه المتوسط عند مجموعة ستة أشخاص ممن يعانون اضطراب القراءة، والصورة، C تبين المناطق الأكثر تنشيطًا عند القارئ العادي مقارنة بالذين يعانون اضطراب القراءة.

تنشيط الدماغ المتوسطة

3 - التنبؤ بالعلاج Pronostic

 تُقيَّم في هذه المرحلة طرق العلاج، وحالاتها، وإمكانيات نجاحها، واختيار التدخل المناسب لفائدة التلميذ، وتحديد المدة الزمنيَّة التي يتطلبها، وإجراءات التقييم المرحلي والنهائي لهذا التدخل، وتحديد الوقت الذي يؤخذ من القسط المدرسي للتلميذ، ويعيَّن تواتر المواظبة وكيفيَّة مشاركة التلميذ والولي والأطراف المشرفة.

4 – إعادة التأهيل Rééducation

أي تقديم التدخل المناسب لفائدة التلميذ، وتكون هذه المرافقة التربوية في مجموعات مستوى لها خصائص صعوبات التعلُّم واضطراباته نفسها، أو في مجموعات متابعة تجتمع لأسباب تجمعها وخاصة عامل الزمن والمدَّة أو للإعلام الجماعي أو نحو ذلك، وتفترق عند التدخل المختص أو مجموعات تأقلم خاصة إذا كان التلميذ يعاني من حالات نفسيَّة أو بسبب عدم اندماج مدرسي أو لأسباب نفسيَّة أرهقت مساره المدرسي. وتتكون هذه المجموعات عادة من عدد قليل من التلاميذ لا يزيد على عدد نصف الفصل: 14 تلميذًا على أقصى تقدير.

وقد يقدم التدخل لفائدة التلميذ وحده إذا أمكن ذلك ماديًّا لتفريد نوع الإعانة المقدمة له حسب احتياجاته المتطورة. وليست هذه التدخلات دروس دعم أو إعادة المحتوى الدراسي كما وقع تقديمه مسبقًا، بل يجب التعرف على خصائص التلميذ التعُّلميَّة ونوع صعوباته والاستراتيجيات التي يستعملها لتجاوزها ثمَّ مراعاة كل ذلك، والبحث أحيانًا معه على منهج عمل يعينه على التقدُّم يوافق عليه ويتبناه، ويمكن استخدام بعض البرمجيات الإعلامية التي ظهرت جدواها في هذا المجال.

ويمكن إشراك التلميذ في بعض الورش لتدعيم استقلاليته في عمله المدرسي empower the student، ولتنمية قدرته على التقييم الذاتي، ودفعه إلى تبين تمشياته المعرفية بواسطة التعبير عنها verbalization، أي وصف نشاطه المعرفي ومراحله بالكلمات؛ وذلك لإعادته إلى المستوى المطلوب. كما لا يُهمل أيضًا تعويده على العمل الجماعي واكتشاف ثمراته. ويجب الاستماع إلى تبريرات المتعلِّم وتصوراته عن صعوباته التي قد تحتاج هي نفسها إلى نقاش أو علاج.

وقد تكون معالجة صعوباته أو اضطراباته بإلحاقه بمدارس مختصة إذا كانت هذه بدرجة كبيرة من الخطورة. وفي هذه المرحلة يتخلى التلميذ عن مدرسته الأصلية ومدرسيه مدة زمنية محددة أو لا يعود أصلًا إلى المدارس العادية.

ما ذكرته في كيفيَّة العلاج هذه يتعلق بالمثال الغربي في حلوله وهياكله، وكثير منها غير متوفر في بلداننا العربية أو بالظروف المناسبة الكفيلة بالنجاح. هذه الأفكار الواردة وغيرها مما تقدمه النظم التربوية الأوربية يجب التعرف عليها؛ وكذلك على كيفيَّة معالجة نظم أخرى هذه المشكلة وطرح سؤال: كيف نعالجها نحن؟ وماذا أعددنا لها من مختصين ومن هياكل؟ وكيف نُعدُّهم إذا كان الحل في ذلك؟ وماذا أعددنا من برامج وماذا سنعد؟... إلخ.

ضرورة توفير ظروف وفرص تعلم مناسبة

ويقول بعض الباحثين التربويين "إنَّ تطور التلميذ لا يرتبط بخصائصه الفردية بل بطبيعة الفرص والإعانات المقدَّمة له". ويقول آخر: "ليس دائمًا البحث في خصائص التلميذ لاكتشاف صعوباته مهمًّا، بل قد يكون ذلك في محيطه الذي لم يسمح له باكتساب تلك المهارات". وقد استقيت هذين القولين من مقال لجان بيار بروني بعنوان: الوقاية من صعوبات التعلم بين الخيال والواقع. 

   ,La prévention des difficultés d'apprentissage : entre le mythe et la réalité

Jean Pierre Brunet : Université du Québec Montréal

ويدلان على أن علة صعوبات التعلم ليس كما نعتقد عادة تعود إلى التلميذ نفسه؛ بل يجب البحث عنها في ظروف تعلمه، والإمكانيات التي أتاحها له محيطه للتعلم، وعوائق التعلم التي نعثر عليها في المحيط.

يجب تهيئة ظروف وفرص تعلم مناسبة لتطور التلاميذ

اقتراحات لحل هذه المشكلة التربوية

  • القيام ببحوث ودراسات تتبناها وزارات التربية والتعليم بالوطن العربي، وتوكل إلى مجموعة من الخبراء التربويين والمربين بمختلف أصنافهم، ويوزَّع العمل على أعضاء المجموعة بعد الاتفاق على الطرائق والمنهجيات وأدوات البحث وطرائق الاستنتاج وكيفيَّة الوصول إلى النتائج وتحقيق الأهداف. ويتفق مع الوزارة على كيفيَّة اتخاذ الإجراءات العملية وتطبيقها لتعديل ما يمكن تعديله على ضوء هذه الدراسات الجماعية بما أنها تابعتها وأشرفت عليها. بهذا يمكن أن يتقدَّم المسار التربوي، وليس بقرارات فوقية ليس لها أساس علمي أو بحثي.
  • إصدار نصوص تنظيمية ترتيبية على مستوى وطني وجهوي تعرِّف بصعوبات التعلُّم واضطراباته ومجالاتها وكيفيَّة التدخل والتشخيص والمعالجة ونوع الإعانات الممكن تقديمها للتلاميذ، وتحديد مسؤولية كل طرف في مجاله.
  • تركيز وحدة ولجنة لمعالجة صعوبات التعلم واضطراباته في الوسط المدرسي بكل حوض تربوي، واختيار أعضائها حسب الكفاءة والخبرة والاختصاص والدراية بالمجال.
  • تعريف المربين بمهام هذه الوحدة أو اللجنة وبنشاطاتها ودعوتهم إلى الإفادة والاستفادة وإلى تبادل الخبرات والتجارب والتعاون.
  • تكوين لجان مختصة بكل حوض تربوي تتكون من طبيب أو أطباء لهم دراية باضطرابات التعلم خاصة وإعاقاته (لتقصي حالات قصور البصر والسمع والصحة النفسيَّة والبدنيَّة للمراهق في الوسط المدرسي...) ومن مختصين في اختصاص الأعصاب وفي تقويم النطق ومن مربين أكفاء مهتمين مهمتهم التدخل لحل مشكلات التلاميذ في هذا المجال.
  • إشراك الأولياء في كل هذه اللجان وتحسيسهم بنشاطاتها لإنجاح التدخل المقدم لفائدة منظوريهم وغيرهم.
  • تحسيس الأولياء بإمكانية كشف هذه الظواهر المتعلقة بصعوبات التعلم واضطراباته وإعاقاته منذ السنين الأولى للطفل للتبكير بعلاجها، وانتشار الالتحاق برياض الأطفال وتعميم السنوات التحضيريَّة ما قبل المدرسية يجب أن يكون أحد أهدافه كشف الصعوبات المعيقة للتلميذ التي قد تكون بدايات اضطرابات التعلم، وتقديم الإعانات المناسبة للأطفال ذوي الصعوبات وجعلهم أكثر استعدادًا للمراحل القادمة؛ لأنَّ في هذه المرحلة الأولى يكون الأمر فيها أسهل قبل تفاقم الحالات.
  • تكوين مختصين في مجالات صعوبات التعلم وتكوين المربين الذين سيُكلفون بمهمات إعادة التأهيل بواسطة كفاءات وطنيَّة وأجنبيَّة.
  • جرد بأهم صعوبات التعلم وإمكانيات معالجتها حسب كل مستوى دراسي. وليس الهدف من ذلك تقديم حلول جاهزة؛ بل يجب أن يكون منطلق هذا العمل تفريد التدخل لفائدة التلميذ حسب خصائصه وظروفه ومستواه.
  • إنشاء اختصاص في علوم التربية على مستوى الإجازة والماجستير والدكتوراه لدراسة صعوبات التعلم في الوسط المدرسي واضطراباته وإعاقاته، ويتوَّلى هذا القسم البحث في هذا المجال، وإعادة تأهيل التلاميذ ذوي الصعوبات والاضطرابات والحالات المستعصيَّة.
  • إصدار برمجيات معلوماتية تعين في التشخيص وإعادة التأهيل.
  • للجمعيات دور في تحريك السواكن وتغيير الأشياء، فإن مجرد ظهورها يعطي أملًا في الحلول. وإن كانت كثير منها ليست إلا واجهات وعناوين لا أنشطة نافعة لها، وبعض منها نشطة يُنتظر منها نتائج قيمة. والعمل الجمعياتي ضروري لتنشيط العمل التربوي؛ حتى لا يبقي مقتصرًا على البرامج الحكوميَّة. وأرجو أن تتطور في اتجاه خدمة التربية، والهياكل التربوية أكثر قدرة من الأفراد على الفعل، والمقصود الإنجاز أولًا وآخرًا وأخيرًا؛ لأن مجرد العلم أو البحث لا قيمة له.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

مقال مفيد جدا ... 👍
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا لك على متابعة مقالاتي.
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة