«إنهم لا يرون إلا ظلال الأشياء، ويظنون أنهم يرون الحقيقة» أفلاطون، الجمهورية.
في الأزمنة القديمة، رسم أفلاطون صورة لكهف يُحبس فيه البشر منذ ولادتهم، لا يرون من العالم سوى ظلال تتحرك على جدرانه، فيحسبونها الحقيقة المطلقة، كانت هذه الأسطورة صرخة تحذير من خداع الحواس ومن عجز الإنسان عن التماس جوهر الحقيقة.
واليوم، بعد ألفي عام، لم نخرج من الكهف كما حلم أفلاطون. بل بنينا كهوفًا جديدة بأيدينا، أكثر اتساعًا وأناقة، وأكثر خداعًا وخطورة.
نحن، أبناء العصر الرقمي، نحيا في كهوف رقمية معقدة، لا جدرانها من حجر، ولا أغلالها من حديد، بل من ضوء وشاشة ولمسة إصبع.
الفلترة صنعة الظلال الجديدة
لم تعد الظلال تُسقط علينا من نار مشتعلة خلفنا، بل تصنعها عدسات مصممة وبرمجيات خفية، كل صورة نراها مفلترة، كل لحظة نعيشها مصفَّاة، كل تجربة تُعرض علينا وقد فقدت شيئًا من أصالتها.
لقد اختزلت الحياة إلى سرديات مصممة بعناية: ضحكة مشرقة، جسد منحوت، لحظة مثالية. كأننا لم نعد نكتفي بعيشنا، بل أصبحنا نحترف اختلاق حياتنا في صور قابلة للمشاركة.
ومع مرور الوقت، ننسى الفارق بين الأصل والصورة، ننسى، بل ربما نتخلى طواعية عن السؤال الأول: أين تنتهي الحقيقة وأين تبدأ الخدعة؟
وهم الحرية داخل الكهف
لقد أوهمتنا التكنولوجيا أننا أحرار، وأننا نتحكم بما نرى ونختار، لكن الحقيقة أكثر قسوة: نحن أسرى خيارات موجهة، وأهواء مبرمجة، وخوارزميات تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا.
«التحرر الحقيقي يبدأ حين يشك الإنسان فيما يراه أمامه» تأويل معاصر لفكرة أفلاطون.
في الكهف الرقمي، لم نعد ننتظر الحقيقة، بل نستبدل بها منتجًا بصريًا أكثر سهولة للهضم، وأكثر قدرة على الإرضاء اللحظي، هكذا تتحول الحرية إلى قيد ناعم، والسعادة إلى واجب ظاهري لا يظهر إلا فراغًا داخليًا متزايدًا.
الخروج إلى النور رحلة الخلاص المؤجلة
أن تخرج من الكهف الرقمي اليوم لا يعني أن تهجر التقنية، بل أن تستعيد وعيًا نقديًا فقدناه، أن تجرؤ على مواجهة الذات دون تجميل، وعلى مصافحة العالم كما هو: ناقصًا، معقدًا، مؤلمًا وجميلًا في آن واحد.
الخروج ليس خيار الأغلبية، ولا رغبة السائرين خلف الضوء الصناعي، الخروج قدر القلة الذين يرفضون العيش في النسخ المستنسخة الذين لا ترضيهم الظلال ولا تغريهم النسخ المشوهة من الحقيقة.
هؤلاء وحدهم من يستطيعون أن يروا العالم بنقائه الوحشي وروعته الفطرية، بعيدًا عن الفلاتر، بعيدًا عن الأكاذيب الجميلة التي باتت عملتنا اليومية.
في كهوف أفلاطون الرقمية، كل شيء مصمم ليشبه الحقيقة دون أن يكونها، أما النور الحقيقي، فلا يزال ينتظر من يملك الشجاعة الكافية ليفتح عينيه، ولو احترقت روحه من سطوعه.
في عالمنا هذا، أن ترى الحقيقة أصبح عملًا بطوليًا، وأن تحبها على الرغم قسوتها أصبح ضربًا من المجد الشخصي.
«أن ترى الشمس بعد ظلمة الكهف، هو أن تولد من جديد» أفلاطون.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.