كليلة ودمنة.. رحلة في أدب الحكمة والأمثال من الهند إلى العالمية

يُعد كتاب كليلة ودمنة من كنوز الأدب العالمي التي تجاوزت حدود الزمان والمكان؛ لأنها تجمع بين الحكمة والأمثال والروايات الرمزية التي أثرت ثقافات الشعوب عبر القرون، فقد ألهمت حكاياته فنانين وأدباء في مختلف الحضارات، وترجمت إلى عشرات اللغات، ما يدل على عمق تأثيرها العالمي، فكليلة ودمنة من الكتب والأعمال الأدبية التي تجاوزت حدود الجغرافيا والتاريخ، وأصبحت علامات في الأدب العالمي، وظلت حاضرة مع تغير الظروف والمفاهيم والثقافات.

وفي هذا المقال نصحبك في جولة مع تاريخ كتاب كليلة ودمنة الذي احتل مكانة كبيرة في الأوقات كلها، والأمكنة كذلك كلها، فصار أسطورة من أساطير الأدب العالمي حتى صارت الحكايات والقصص الخرافية الموجودة في الكتاب جزءًا من الثقافة المتداولة في أمكنة العالم كلها لدى الكبار والصغار.. هيا لنتعرف معًا إلى أصل هذا العمل الاستثنائي، وكيف وصل إلينا؟

كليلة ودمنة كنوز الحكمة على ألسنة الحيوانات

يعد كتاب كليلة ودمنة من الكتب القديمة التي تحتوي قصصًا خياليةً وخرافية وحكاياتٍ على لسان الحيوانات، وهي قصص رمزية للتعبير عن الآراء والأفكار ومناقشة الأحداث والشخصيات وإرسال الرسائل الأخلاقية وتقديم النصائح بطريقة لطيفة ومسلية في الوقت نفسه. فالأسد في كثير من الحكايات يرمز إلى السلطان، والثور يمثل القوة الغاشمة، في حين يمثل ابنا آوى كليلة ودمنة نموذجين مختلفين من مستشاري الحاكم، أحدهما يسعى للخير والآخر للمصلحة الذاتية.

يحتوي كتاب كليلة ودمنة 15 فصلًا من الحكايات والقصص الخيالية التي تضم الحيوانات والطيور

يحتوي كتاب كليلة ودمنة 15 فصلًا من الحكايات والقصص الخيالية التي تضم الحيوانات والطيور، إضافة إلى أربعة أبواب أخرى تتحدث عن بلاد الهند والمؤلف ابن المقفع الذي ترجم الكتاب من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية.

يتحدث كتاب كليلة ودمنة عن كثير من الموضوعات الإنسانية والأخلاقية؛ مثل الشجاعة والصداقة والتواضع والأمانة في قصص متداخلة تصل في نهايتها إلى قصص أخرى، ما يدفع قارئه إلى الاستمرار في قراءة الكتاب بكثير من التشويق والإثارة والمتعة. هذه البنية المتداخلة تظهر تعقيد العلاقات الإنسانية وتوضح كيف يمكن لفعل صغير أن يؤدي إلى سلسلة من الأحداث.

وعلى الرغم من أن الحكايات والرسائل التي يقدمها كتاب كليلة ودمنة على لسان الحيوانات والطيور، لكنها كلها تخص المعاملات الإنسانية والعلاقات البشرية، لذا فإن الكتاب قد استخدم الحيوانات والطيور أداةً للنصح أو الإيضاح، إضافة إلى المتعة والتسلية مع اختلاط الظاهر بالباطن بأسلوب مشوق وكثير من الخبرات المعرفية والفلسفية التي منحت كتاب كليلة ودمنة تميزًا كبيرًا عن كل الكتب التي كانت في المجال نفسه على مدار تاريخ الأدب الشعبي كله.

من الهند إلى العالمية.. أصل كتاب كليلة ودمنة وتأثيره

وعلى الرغم من وجود جدال قديم عن أصل كتاب كليلة ودمنة، فإن معظم الباحثين قد أجمعوا على أن هذا الكتاب كتب في الهند، ومن الهند خرج إلى المجتمعات البشرية المختلفة حتى أصبح جزءًا من التراث الأدبي العالمي بعدما ترجم إلى اللغة الفارسية والعربية؛ لأن الكتاب يتحدث عن علاقة أبدية بين الحاكم والمحكوم، إضافة إلى استخدام الحيوانات الذي جعل الكتاب سهل التداول والانتقال في معظم البيئات الحضارية والثقافية، وقد أسهم هذا الأسلوب الرمزي في تجاوز الحواجز الثقافية واللغوية، فيمكن للقراء من خلفيات مختلفة فهم الرسائل الأساسية للكتاب.

أرجع الباحثون الكتاب إلى الحضارة الهندية وترجمه عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى العربية

وتحدث الباحثون عن أصل كتاب كليلة ودمنة، فأرجعوه إلى الحضارة الهندية، وكان وصول الكتاب إلى العرب بما قدمه عبد الله بن المقفع من ترجمته للكتاب من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية في العصر العباسي، تحديدًا في القرن الثاني الهجري والقرن الثامن الميلادي، وهي مرحلة ازدهار الترجمة والتبادل الثقافي في العالم الإسلامي، ويقال أيضًا: إن عبد الله بن المقفع قد أضاف إلى الكتاب الطابع العربي، وكان الكتاب قد ترجم من اللغة الهندية إلى اللغة الفارسية في القرن السادس الميلادي قبل ترجمة ابن المقفع بنحو 200 عام.

ابن المقفع يكشف الأسرار.. كيف نقل إلينا حكمة كليلة ودمنة؟

يعد عبد الله بن المقفع الذي عمل على ترجمة كتاب كليلة ودمنة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية أحد أبرز الأدباء في العصر العباسي، وكان قد ولد في فارس عام 724م، وعاش معظم حياته في العراق، وكان اسمه الفارسي (روزبه)، عاش في أسرة فارسية تعتنق الديانة المجوسية قبل أن يتوجه إلى العمل في ديوان الخليفة في البصرة، وهناك أسلم على يد الأمير عيسى، وأصبح اسمه  عبد الله  بن المقفع، وقد كان ابن المقفع شخصية مثيرة للجدل وذو ثقافة واسعة، مما أثرى ترجمته وأكسبها طابعًا أدبيًا رفيعًا.

عمل إبن المقفع على ترجمة عدد من الكتب المهمة في المنطق والأدب؛ لأنه كان يجيد الفارسية والعربية، إضافة إلى أن إقامته في البصرة ساعدته على التعرف إلى الفقهاء والشعراء وأهل الأدب واللغة والحديث، فأحاط بكثير من أسرار اللغة العربية وأساليبها.

مقدمة كتاب كليلة ودمنة.. قصة الملك دبشليم والفيلسوف بيدبا

تعد مقدمة الكتاب من أهم أجزائه، وهي بوابة الدخول إلى عالم كليلة ودمنة، فهي تتحدث عن (بيدبا الفيلسوف) مع الملك الهندي (دبشليم)، وتقول الحكاية إن الهند تعرضت إلى غزو الإسكندر الأكبر ذي القرنين الذي اجتاح البلاد، وبعد أن انتصر وأحكم قبضته على الهند عيّن أحد أتباعه على الهند، لكن أهل البلاد لم يرضوا بالحاكم الأجنبي، وقرروا اختيار شخص منهم، فوقع الاختيار على (دبشليم) الذي وافق عليه الإسكندر، وجعله ملكًا على البلاد.

المقدمة بوابة الدخول إلى عالم كليلة ودمنة وتتحدث عن

على الرغم من أن دبشليم كان يتحلى بالرحمة والعدل، فإنه مع الوقت تحول إلى ملك ظالم، وهو ما جعل الفيلسوف (بيدبا) يقدم له النصائح عن العدل والرحمة والتواضع، لكن الملك غضب من الحكيم (بيدبا)، وأودعه السجن قبل أن يعود مرة أخرى، ويستمع إلى نصائحه، ويعينه وزيرًا للبلاد، ثم طلب الملك (دبشليم) من الحكيم (بيدبا) أن يدون كتابًا يحتوي هذه النصائح والحكم ليكون عبرة للناس من بعده، وهذه المقدمة الإطارية تضع القارئ في سياق حكايات الحكمة وتهيئه لاستقبال النصائح القادمة على ألسنة الحيوانات.

السمات الأدبية والأسلوبية في كتاب كليلة ودمنة

من أهم السمات الأسلوبية التي يعتمد عليها كتاب كليلة ودمنة سمة الأسلوب القصصي، وتشابك الموضوعات والحكايات ودخول شخصيات جديدة، مع تتابع الأحداث، وهو ما يجعل حكايات كليلة ودمنة نابضة بالحياة ومشوقة على المستوى السردي ومحببة إلى النفوس سواء عن طريق القراءة أم الاستماع.

يتميز كتاب كليلة ودمنة باستخدام الطيور والحيوانات رموزًا للعالم البشري

ويتميز الكتاب أيضًا باستخدام الطيور والحيوانات رموزًا للعالم البشري، وبذلك يمكنها أن تحمل كل الرسائل والنصائح والآراء والأفكار، كأنها تأتي من عالم مجهول، ولا يتحمل الكاتب أو الراوي أو القارئ أي عبء أو خوف من ردود أفعال أو أحكام خاصة، فالكتاب كما قلنا يتحدث عن علاقة الحاكم بالمحكوم، وهي علاقة دائمًا يحكمها الخوف والتردد وربما الكذب والنفاق. وهذا الأسلوب الرمزي يمنح الكتاب مرونة في تفسير معانيه وتطبيقها على مختلف السياقات السياسية والاجتماعية.

استخدم كتاب كليلة ودمنة لغة بسيطة وسهلة؛ لتصل الحكايات إلى الناس كلهم مهما كانت درجة ثقافتهم، إضافة إلى الاعتماد على الفكاهة وخفة الظل في أسلوب السرد والحكي، ما يجعل الحكايات مسلية ومشوقة ومناسبة للجميع.

يعتمد كتاب كليلة ودمنة على الحكم والأمثال والآراء الفلسفية والتجارب والخبرات التي خاضها الناس في الأمكنة كلها، لذا فإنّ الكتاب يحمل فوائد عدة إلى جانب التسلية والمتعة، ويظهر مع النصائح قدر كبير من المعرفة العميقة والخبرات الإنسانية التي يقدمها كتاب كليلة ودمنة للقراء على اختلاف وعيهم وقدرتهم على التحليل والاستنتاج من الحكايات والحوارات في الكتاب.

إن كتاب كليلة ودمنة يصحب القارئ إلى عالم السحر والخيال والأساطير، ويصف بيئة الحكام والملوك والقصور، وهي عوالم محببة إلى قلوب الناس في كل زمان ومكان، إضافة إلى الطابع الديني الذي استخدمه الكتاب في التعامل مع القضايا على غرار الرضا بالقضاء والقدر وبداية الإنسان وآخرته، وهو أمر يشترك فيه الناس على اختلاف الزمان والمكان.

وفي نهاية هذا المقال الذي حاولنا به الإجابة عن الأسئلة التي تخص كتاب كليلة ودمنة، أحد أهم كتب التراث الأدبي  العالمي وأشهرها، ونرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقالة عبر مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة