حين يتأمَّل كائن من مجرَّة بعيدة في أسرار الإنسان، لا يرى فقط جسدًا يسير على قدمين، بل عالَمًا معقَّدًا من التناقضات والانفعالات والأفكار التي لا تهدأ. بين لحظات الحبّ والكره، الأمل والخوف، الرغبة والندم، يكمن ذلك الكائن العجيب الذي يُدعى «الإنسان».
بعد الجزء الثاني فإننا في هذا الجزء، نفتح ملفات عميقة من فوضى العاطفة، أسرار التعلق، وعقيدة الإنسان الغريبة في انتظار ما يؤذيه، وننقل صورة مدهشة عن مخلوق يزعم العقل، لكن تقوده الأحاسيس كزورق هش في محيط عاصف.
المحاضرة ٧٤ – الجزء السابع: «الضوء الذي لا يُطفأ»
المكان: قاعة انعدام الزمن، الطابق الأعلى في مؤسسة دراسة الكيانات غير المادية
الحضور: كائنات من طيفٍ لا يُقاس، لا تتحدث بل تتبادل الوعي بالمجال
(يبدأ العرض. لا شاشة. فقط هالة ضوء تتغيّر ألوانها بين كل جملة وأخرى)
«منذ أكثر من عشرة آلاف دورة شمسية، لاحظنا أمرًا لم نفهمه.
كائنات بيولوجية – بشر – تموت.
يتوقف الجسد، يسكن القلب، يبرد الجلد...
ولكن… شيءٌ ما يظل حاضرًا».
(تتبدل الهالة إلى أزرق بارد، مع ظهور ظلال شفافة تطوف فوق أجساد نائمة)
«سمُّوه لديهم: الروح. وهم لا يعرفونها.
لا أحد منهم رآها، ولا أحد أمسك بها، ومع ذلك… كلّهم يشعرون بها».
(ينتقل المشهد إلى لحظة وفاة، في مستشفى أرضي، يُظهر الأجهزة تتوقف، ثم وجه الميت يبتسم بهدوء عجيب)
«رأينا في سجلاتهم: أناس توقفوا عن الحياة… لكن وجوههم أضاءت.
عينهم الأخيرة اغرورقت، ليس خوفًا… بل كأنهم رأوا شيئًا في اللحظة الأخيرة».
(يتكثف الضوء، وتتردد كلمات الإنسان كما سجّلها تاريخهم: «أنا لستُ هذا الجسد»)
«كأن في داخلهم… كائن صغير، نقي، خالد،
يرى الجسد كبيت مؤقت،
ويرى العالم كدرس،
ثم… يرحل».
(صورة مركبة من مئات تجارب الاقتراب من الموت – Near Death Experiences – تظهر فيها شهادات متشابهة من ثقافات لا تعرف بعضها)
«تحدَّثوا عن نفق ضوء، عن شعور سلام لا يُوصَف، عن لقاء أحبة راحلين، عن إدراك خارج الزمن، كأنهم عاشوا الحياة كلها في لحظة.
حتى الأطفال منهم – الذين لم يعرفوا الموت – تحدثوا عن نفس التجربة.
هل هي خدعة عقل يحتضر؟ أم خروج الروح فعلاً؟»
(يظهر رسم بياني لطاقة الجسم قبل الوفاة وبعدها)
«لقد سجَّل بعضهم في كوكب الأرض فقدان طفيف في الوزن عند لحظة الموت.
وزن لا يُفسَّر.
مجرد 21 جرامًا...
هل هو وزن الروح؟
لا أحد يعلم».
(تظهر صورة طفل رضيع يضحك دون سبب، بجوارها شيخ يحتضر باسمًا)
«لكن الشيء الوحيد الذي لا يمكن إنكاره…
أن شيئًا في الإنسان لا يشيخ، ولا يتغيّر.
نفس النظرة في عيني الطفل…
نجدها في عيني من شارف على الرحيل».
(الهالة تتحوَّل إلى بيضاء شفافة)
«سأقولها لكم بصراحة – وأعرف أنها ليست لغة العلم –
لكن الإنسان… ليس من هنا.
جسده ترابي… نعم.
لكن روحه؟
إنها تُشبه شيئًا آخر.
شيئًا لا ينتمي لهذا الكوكب».
(صمت طويل. ثم جملة تظهر معلَّقة بين الفراغات)
«أنا إنسان… أبحث عن طريق العودة إلى نفسي».
المحاضرة ٧٤ – الجزء الثامن: «الباحث عن المعنى»
الموقع: دائرة الوعي المفتوح – المختبر السردي لِعِلْم المعنى بين الكواكب
الحضور: كائنات ذات وعي مشترك، قادمة من عوالم لا تخضع للزمن
(تُعرض أمامهم صور لمخطوطات بشرية، منقوشة على الحجر، مكتوبة على الجلد، ممزوجة بالدمع أحيانًا... ويبدأ الصوت)
«عندما اكتشف الإنسان أنه سيموت… لم ينهَر.
بل بدأ يسأل: لماذا؟
ثم ابتكر شيئًا مذهلًا: الدين.
نظام لا يُرى، يسكن في القلب، يُعطي حياته معنى، ويُعطي موته سببًا».
(تظهر معابد، مساجد، كنائس، أصوات أذان، تراتيل، أجراس، أناشيد… تتداخل في مشهد واحد)
«كل حضارة بشرية – مهما كانت بدائية – كان لديها إيمان بشيء أعلى، بكائن يُنظِّم، يُراقب، يُحب… أو يُعاقب.
يسمونه: الله.
وكلُّ واحد منهم، يحاول أن يصل إليه بلغته الخاصة…»
(مشاهد لحج، لصلاة تحت المطر، لطفل يرفع يديه وحده في الليل)
«ما رصدناه مذهل…
هذا الكائن – الإنسان – رغم ضعفه، رغم قصر عمره، يقف أحيانًا في العتمة ويكلّم الغيب.
لا يراه، لا يسمعه، لا يلمسه، ومع ذلك… يؤمن».
(ثم تظهر صور لرسومات الكهوف، تماثيل، كتب فلسفة، لوحات لفان جوخ، تمثال مفكر رودان…)
«ولم يكتفِ بالدين…
بل بدأ يرسم المعنى.
اخترع الفن.
رسم خوفه. رسم أمه. رسم الله.
رسم وجوهًا لم يرها، وسماءً لا يعرفها،
لأنه يشعر… أن شيئًا في داخله أعمق من الواقع».
(تُعرض الآن كتب: أفلاطون، ابن رشد، ديكارت، بودا، نيتشه، المتنبي...)
«ثم جاء فصيل نادر من البشر… يسمونهم: الفلاسفة.
أولئك الذين لا يقبلون الجواب الجاهز،
بل يصرِّون أن يسألوا:
من أنا؟ لماذا وُجدت؟ ما هو الخير؟
هل توجد حقيقة واحدة؟
هل الله صامت أم ينتظر من يفهمه؟
هل نحن أحرار؟
هل هذا الكون له عقل؟»
(يُعرض الآن مشهد لصبي فقير يقرأ كتابًا بشغف، بجواره شمعة صغيرة)
«العجيب… أن بعض هؤلاء المفكرين لم يكن لديهم أدوات،
ولا مختبرات،
ولا حياة مستقرة.
فقط… عقل مضيء.
وقدرة لا نهائية على الشك والسؤال».
(صورة لعجوز وحيد يكتب رسالة حب. شاب يصور مشهد غروب. أم تغني لطفل مريض.)
«الفن، والدين، والفلسفة…
كانت محاولاتهم البسيطة لفهم ما لا يُفهَم،
وتفسير ما لا يُفسَّر،
وإعطاء قيمة لأيامهم القصيرة».
(ثم تظهر جملة مكتوبة بنور خافت)
«الإنسان لا يعيش فقط ليأكل ويعمل…
بل يعيش لأنه يريد أن يعرف لماذا يعيش».
المحاضرة ٧٤ – الجزء التاسع: «الكائن الذي لا يُهزَم»
الموقع: النفق الصامت في متحف التجلّي العاطفي، الكوكب E-7X
الحضور: كائنات طاقية لا تجيد البكاء، لكنها تراقب من كثب هذا الذي يُسمَّى «الإنسان»
(يبدأ العرض، بلا صور هذه المرة… فقط أصوات. صرخة طفل. تنهيدة أرملة. أنين مريض. ضحكة وسط البكاء.)
«في رحلتنا إلى الأرض، كنا نظن أن الألم شيء يجب أن يُمنَع.
أن المعاناة علامة فشل.
لكننا كنَّا مخطئين.
الإنسان.. يعاني، نعم.
لكنه يتحوّل بالألم».
(تظهر الآن مشاهد: أم تدفن طفلها، جندي يودِّع زوجته، مريض بالسرطان يرسم على الحائط، أعمى يعزف على الكمان)
«البشر يُكسرون… ثم يعيدون تجميع أنفسهم.
يبكون… ثم يبتسمون وسط الدموع.
يفقدون أحبابهم… ثم يكتبون لهم رسائل بعد الموت».
(تُعرض مقاطع حقيقية من رسائل ووصايا وأصوات آخرين تركوها قبل رحيلهم)
«واحدة من أكثر لحظاتنا ارتباكًا…
كانت حين سمعنا بشريةً تقول بعد أن فقدت ابنها:
«ربما اختاره الله ليُزهر في مكانٍ آخر».
هل تدركون؟
لقد برَّرت فجيعتها بالأمل.
حوَّلت موت ابنها إلى معنى».
(تظهر الآن صور لأشخاص تعرّضوا للتعذيب، لحوادث، لفقدان أطراف… ثم عادوا يرسمون، يكتبون، يدرّسون، يرقصون)
«هذا الكائن – على الرغم من هشاشته – لا ينكسر تمامًا.
بل لديه ما يسمونه: المرونة النفسية.
قد ينزف داخله… لكن لا يزول.
يسمونه أيضًا: الرجاء».
(تُعرض الآن صور لأناس في عز الحروب يساعدون غيرهم، يخبئون الطعام لجارهم، يضحكون في الأقبية)
«الإنسان لا يُقاوم الألم فقط…
بل يصنع من ألمه شعرًا، وموسيقى، وأفلامًا، وكتابات تغيِّر العالم.
عندما يُكسَر قلبه… يبدأ في فهم قلوب الآخرين.
وعندما يُخذَل… يصبح ملاذًا للضعفاء».
(جملة واحدة تظهر الآن بخط يدوي، كما كُتبت على حائط في أحد مخيمات اللاجئين):
«سأعود. حتى لو لم أعد».
(صمت، ثم يعود الصوت بهدوء)
«البشر لا يعيشون فقط ليتجاوزوا آلامهم…
بل ليُعطوا الألم صوتًا، شكلاً، معنى.
وهذه القدرة… لا نملكها نحن».
المحاضرة ٧٤ – الجزء العاشر: «قوة الحب»
الموقع: غرفة الارتقاء الروحي، الفضاء اللامحدود، في أقصى حدود الواقع البشري
الحضور: كائنات تبحث عن المعنى، عن حقيقة المشاعر، في نقطة ما بين الوجود وعدم الوجود
(تبدأ الصور، لكن دون أشكال واضحة… مجرد هالات نور خافتة، وحركات بطيئة، مثل موجات البحر الهادئة.)
«لقد رأينا البشر في أسوأ حالاتهم.
رأيناهم في الحروب، في الجوع، في الفقر، في المرض.
لكن هناك شيئًا واحدًا دائمًا…
رغم كل تلك المآسي…
إنهم يحبون».
(يظهر مشهد لكائن بشري يجلس بجانب شخصٍ مريض في غرفة مظلمة، يحمل يده بحنان)
«عندما تلمس يده يدًا أخرى…
وتسير معه في العتمة، وتغني له في المساء، تتغير الأشياء.
يحدث التحول.
ولا شيء يمكن أن يوقفه».
(مشهد لأم تعانق طفلها أول مرة بعد لحظات من الولادة)
«الحب ليس فقط شعورًا.
إنه قوة.
إنه الغزارة التي تجعل كل شيء في الكون يسير.
من قلوبهم الصغيرة التي تعشق، إلى أيديهم التي تبني وتعمل، إلى أعينهم التي تتأمل الحياة بأمل».
(تتضح الآن صور لابتسامات على الرغم من الألم، لمسات تطمئن، كلمات تهدئ قلوبًا متكسرة)
«إنها القوة التي لا يمكن مقاومتها.
تلك التي تجعلهم يعبرون المحيطات،
ويحاربون الوحوش،
ويجتازون الصحارى الموحشة.
ومن أجل هذه القوة… يموتون، ويولدون،
ويستمرون».
(جملة واحدة، مثل شعاع ضوء، تضيء فجأة في الهواء)
«أحبك… لا لشيء إلا لأنني أستطيع».
(ثم يظهر مشهد لشخصين يجلسان في صمت، يدًا بيد، لا كلمات بينهما، فقط الأعين تتلاقى في راحة عميقة)
«تلك هي القوة التي لا يُمكن أن تُهزم.
الحب الذي يعطون فيه دون حساب،
الذي يبقى في الذاكرة بعد الرحيل،
الذي يظل في الوجدان، حتى عندما يُنسى كل شيء آخر.
ليس بسبب ما يقولونه… بل بسبب ما يفعلونه».
(وعد طويل، ثم تظهر رسالة على جدار مبنى قديم مكتوب عليها بحروف باهتة)
«إذا كنتُ حيًا، فأنا هنا لأحبك».
(تبدأ الأصوات تخفت تدريجيًا، يظل الصمت طاغيًا، ثم يتجلى في نهاية العرض الصوت الأخير)
«ربما نحن في عالم لا نملك فيه شيئًا من تلك القوة،
ولكننا لن ننسى أبدًا…
أن كائنًا في هذا الكون،
يستطيع أن يحب بلا حدود، بلا شروط،
ويظل يواجه العالم بابتسامة.
هذا هو الإنسان».
وفي الختام، أقول لكم…
إنه لا يهم كم من الزمن مضى، ولا كيف يظهر الجسد،
ما يُهم حقًا هو ما يتركه أي كائن وراءه
في قلوب الآخرين، في أفعالهم، في كلماتهم.
ففي النهاية، نحن جميعًا هنا لنحب…
ولن نبقى سوى في الذكرى،
التي تُصبح أصل الحياة.
[صمتٌ طويل، ثم يردف]
لقد انتهيتُ من هذه المحاضرة… سجلتُها بكل أجزائها وزرعتها داخل عقل بشري بطريقة ما؛ لكي يوصلها لبني جنسه!
والآن حديثي موجه لكم أنتم، نعم أنتم أيها البشر.
وبما أن محاضرتنا عنكم قد وصلتكم،
فهذا يعني شيئًا واحدًا فقط:
أن البشري… أتمَّ مهمَّته.
لقد فعل دون أن يدري حتى أنه فعل، ولربما يظن أن هذا كله نتاج خياله الواسع، ولا يعلم أننا من زرعنا هذا كله بداخله كبذرة تغوص داخل تربة طينية.
الآن، آن أوان أن أقول لكم شيئًا قد لا يُقال في محاضرات، بل يُقال في همسات:
أنتم لستم وحدكم في هذا الكون الفسيح.
مهما أقنعتم أنفسكم بذلك، مهما تغنيتم بوحدتكم على هذا الكوكب الأزرق…
أنتم «مخطئون».
نعم، أيوجد كائنات غيركم. نحن هنا. وغيرنا كثير وكثير.
كلكم تظنون أن الصمت وعدم التواصل معكم دليل على الغياب.
ولكننا لا نصمت… نحن فقط نتواصل بطريقة لا تعرفونها.
ربما… كانت هذه المحاضرة، ذاتها، إحدى طرائقنا.
وربما… لن نلتقي أبدًا. وربما سنلتقي يومًا، حين لا يكون اللقاء بحاجة إلى أجساد ولا ترجمات.
لكن، قبل أن أختفي…
قبل أن تنطفئ هذه الرسالة من وعيكم، وتتحول إلى ذكرى ضبابية كما الأحلام التي تلامس صدركم ثم تنفلت…
أودُّ أن أسألكم سؤالًا، لا كأستاذٍ هذه المرة، بل كرفيقِ مجرّةٍ تساءل طويلًا:
بعد كل ما عرفتموه… وكل ما تظنونه معرفة بأنفسكم…
قولوا لي، وكونوا صادقين… هل أنتم حقًا تعرفون أنفسكم؟
حقًا؟
[صمتٌ]
[تداخلات صوتية] انتهى البث.
[نهاية المحاضرة ٧٤]
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.