لم يكن مشهد القبض على اثنين من اليهود على (كوبري أبوالعلا) بعد اغتيالهما اللورد موين وزير الدولة الإنجليزى، في فيلم "جريمة في الحي الهادئ"، للمخرج حسام الدين مصطفى، من صنع خيال المؤلف بشكل كامل..
كذلك لم يكن المخرج (بركات) هو مبتكر مشهد سقوط عدد كبير من طلاب جامعة القاهرة في فيلم (في بيتنا رجل) في النيل، حين أعادت قوات الشرطة فتح (كوبري عباس) بالجيزة، وفقًا للوقائع التاريخية التي توثقها أحداث الفيلم، بعد محاصرتها لهم وهم متجمعون في مظاهرات عابرة انطلقت على كوبري عباس بالجيزة، وفجأة مع تزايد أعداد المتظاهرين فُتح الكوبري عليهم حتى تُجهض التظاهرات.
قد يهمك ايضاً الأنفاق والكباري خدعة المستثمريين العقاريين في حل أزمة المرور . والحل هو...
الكباري وعلاقتها بالسينما
ولأن قصة اليوم في التاريخ هي غالبًا في كثير من ملامحها قصة الأمس، فقد كررت الكباري والجسور في مصر تسجيل حضورها أكثر من حادث تاريخي مهم، بشكل واقعي، لا سينمائي فحسب..
فلا تكاد تجد في مصر كوبري أو جسرًا تقريبًا، إلا ويرتبط اسمه بفعل وطني، أو تغير سياسي كبير، فكوبري أكتوبر يذكِّر العابرين فوقه بيوم العبور العظيم عام 1973.
وكوبري (الجلاء) كان يعرف سابقا بكوبري الإنجليز، وكان تغيير اسمه توثيقًا لفكرة الخلاص من استعمار دام قرابة قرن ونصف القرن، وكذلك كوبري قصر النيل الذي اكتسب اسمه الحالي بالأساس على خلفية قيام ثورة يوليو 1952، حيث كان يطلق عليه قبلها (كوبري الخديوي إسماعيل) نسبة إلى القصر الذي كان مشيدًا على الشاطئ الشرقي في هذا الموقع والذي أقيم لإحدى كريمات محمد علي باشا، وأُطلق عليه "قصر النيل"، لوقوعه على شاطئ النيل.
ويتعدى حضور الكباري والجسور في اللقطات المفصلية لصنع تاريخ مصر، من كونها نتيجة، إلى كونها حيز وقوع الحدث والشاهد الأول عليه.
وفي بعض الأحيان مشاركة في صنع الحدث ذاته كما حدث في مظاهرات 1946م وغيرها من مشاهد تسجيلية مفصلية شاركت في رسم ملامح هذا الوطن..
قد يهمك ايضاً السوق في سينما داوود عبدالسيد وما يعبر عنه
المشهد الأول.. مظاهرات كوبري عباس 1935
حكاية أول ضريح يستدل عليه في العصر الحديث لشهيد سجل رسالته بدمه.
"إلى رئيس وزراء إنجلترا: أحد رجالكم الأغبياء رماني برصاصة، وأنا الساعة أمشي رويدًا إلى الموت، ولكني سعيد بأن أترك روحي تنزع مني، وأضحي بدمي.
إن الموت أمر صغير، وآلام الموت عذبة المذاق، من أجل مصرنا نحن، فلتحيا مصر. مصر فوق الجميع. لتحيا التضحية. ليسقط الاستعمار".
هذه الرسالة كتبها الطالب الشهيد محمد عبد الحكم الجراحي بدمه، عندما وجد أنه على مشارف الموت..
كتب رسالته هذه بدمه، بعد أن أصيب بـ15 رصاصة، في 14 نوفمبر 1935؛ لينقله زملائه إلى قصر العينى حيث استخرجت من جسده 8 رصاصات، ونشرتها جريدة اللطائف المصورة ونُقشت على لوح رخامى لا يزال محفوظًا بالمدفن الذي حمله إليه زملاؤه، ليُعلن بعدها الحداد العام فى كل مدارس القاهرة.
قد يهمك ايضاً السينما المصرية
مظاهرات كوبري عباس
وقعت الحادثة أثناء اندفاع وسط حشود الطلاب التي كانت تجتاز كوبري عباس لتصل إلى قلب العاصمة ترصدها البوليس وأطلق عليها النيران.
وفي العام التالي شهد كوبري عباس مظاهرات أكثر ضراوة شارك فيها طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وسقط منهم عدد من الضحايا.
وقد اكتشف هذا الضريح في مصر منذ أيام قليلة، ووجد شاهده مدونا عليه "هذا ضريح الشهيد محمد أفندي عبد الحكم الجراحي الطالب بكلية الآداب بالجامعة المصرية.
المولود في أول يناير 1915، الذي اغتيل برصاص الإنكليز في مظاهرة طلبة الجامعة المصرية عند كوبري عباس في يوم 14 نوفمبر 1935 للمطالبة بالحرية والاستقلال، وتوفي يوم الثلاثاء 19 نوفمبر 1935، ونقل إلى هذا المكان.. احتفال ثانٍ رائع في 4 يناير 1937.. رحمه الله تعالى".
وما يدلل على قيمة التضحية حرص بعض من رسموا حاضر مصر في ذلك الوقت على المشاركة في جنازة هذا الشهيد الشاب.
والدكتور طه حسين عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية آنذاك والدكتور علي مصطفى مشرفة أول عميد مصرى لكلية العلوم بالانتخاب عام 1936 وأول عالم مصرى يحصل على الدكتوراه فى الذرة فى ذلك الوقت وأحمد لطفي السيد أول مدير للجامعة المصرية، ومحمد صبرى أبو علم البرلمانى ووكيل الحقانية المشهور.
المشهد الثاني.. 9 فبراير في عام 1946
فتح كوبري عباس وإغراق الطلاب المتظاهرين.
في ظهيرة 9 فبراير في عام 1946، تعبر أضخم مظاهرة للطلاب منذ قيام الحرب العالمية الثانية، لتعبر شارع الجامعة، ثم ميدان الجيزة إلى كوبري عباس، وما إن توسطته تم فتح الكوبري عليها وبدأ الاعتداء على الطلبة؛ فسقط البعض في النيل وقتل وجرح أكثر من مائتي فرد.
وأصل الحكاية أن اللجنة التنفيذية العليا للطلبة ـ وكانت بمثابة الاتحاد العام للطلاب ـ كانت قد دعت الطلاب لعقد مؤتمر عام يوم 9 فبراير لمناقشة حالة البلاد في ظل الاحتلال البريطاني.
وهاجمت مبدأ الدفاع المشترك مع بريطانيا الذي يحمل معنى الحماية الاستعمارية وطالبت بعدم الدخول في المفاوضات إلا على أساس الجلاء التام عن مصر.
وانعقد المؤتمر العام الأول في يوم 9 فبراير 1946 في جامعة فؤاد الأول ـ جامعة القاهرة حاليًا ـ بالجيزة وشارك فيه كثير من طلبة المعاهد والمدارس.
وعمَّ الاجتماع شعور بالوحدة وأعلن المؤتمر اعتبار المفاوضة عملًا من أعمال الخيانة يجب وقفه، وطالب بإلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 الخاصتين بالسودان وضرورة جلاء القوات البريطانية فورًا.
المشهد الثالث.. 28 يناير 2011
كوبري قصر النيل وأسوده يشهدون أشهر مشاهد ثورة (يناير).
مسافة قصيرة فصلت بين الصفوف الأمامية وطلقات الرصاص الحي وقنابل الغاز في جمعة الغضب 28 يناير 2010، لتثبت في ذاكرة التاريخ مشاهد لمدرعات الأمن وهي تخترق صفوف المتظاهرين، وآخر لخراطيم المياه التي انهمرت على المصلين، ومشاهد أخرى تنوعت بين رصاص حي اخترق الأجساد عشوائيًّا، وأدخنة ارتفعت فوق الرؤوس ومدرعة دهست المتظاهرين، على الكوبري الذي أنشئ في عام 1869 بأمر من الخديوي إسماعيل، وبشهادة تماثيل أسود قصر النيل، التي صممها ونفذها المثال الفرنسى الشهير هنرى جاكمار، بطلب خاص من الخديوي.
في هذا التاريخ منذ تسع سنوات، بدأت الحكاية عندما ارتج "كوبرى قصر النيل" بمن فوقه بهتاف واحد لم يكن الاتفاق عليه معلنًا، حين خرجت قطاعات كبيرة من الشعب المصري، في عينات عشوائية ضخمة من حيث الجنس والعمر والدين، فاحتشدت لهم قوات الشرطة على المخارج تاركة للثوار حرية التقدم داخل فخ مدرعات الأمن المركزي.
كوبري القبة ومظاهرات الطلاب عام 1972
إن فكرة الكوبري لم تتوقف في مصر عند العبور بين مكانين، وإنما أحيانًا كثيرة حملت معنى العبور بين زمنين مختلفين الملامح والصفات، وربما كانت المشاهد الثلاثة السابقة هي أبرز ما سجلته الكباري في مصر من حضور، بجوار مشاهد أخرى ظهرت فيها الكباري كشاهد فقط، مثل حضور (كوبري القبة) بكثافة في مذكرات الضباط الأحرار جميعا تقريبًا، أو عبور مظاهرات الطلاب عام 1972 كوبري الجامعة أثناء مطالبتهم بالحرب مثلًا.
عدم تعرض قوات الأمن لهم على الكوبري، والتعامل بأقل درجة ممكنة من العنف، ليشارك كوبري الجامعة – وهذه المرة دون علمه - في خطة الخداع الاستراتيجي لإيهام إسرائيل والعالم بأن في مصر رئيسًا ضعيفًا لا يسيطر على غضب شعبه، ولا ينوي اتخاذ أي مبادرة في اتجاه الحرب.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.