أفقتُ مكرهًا، كان بالجسد تعرق، وفي المعصم خشونة لم أعهدها. التفتُّ صوب اليمين ثم الشمال، أو أني أتوهم ذلك، فإذا بي منفردًا داخل ما يشبه الغرفة. هي لا تبدو كذلك. أردت أن أشعل النور كي أزيح هذه الظلمة المخيفة، لكنني لا أقوى على الحركة. أظنُّني مقيّدًا دون أغلال. أتكئ على يميني فلا أعي شمالي، وأتنفس فإذا برائحة ليست غريبة، هي أديم الأرض، وإنها لأعمق ذاك الأديم، به عطر مخصوص مخلوط بماء مكسوّ بعروق شجر مدسوس داخل خبايا أرض مهجورة.
أحاول أن أزحزح نفسي فألطم شيئًا خشنًا على يميني، وصلبًا في الأعلى. يدي اليسرى معطَّلة، فهي محشورة أسفل جسدي، ويدي اليمنى تنحبس داخل قماشة مسدودة لا يوجد فيها ثقب. أحسُّ بضيق في صدري فلا أقوى على التنفس، أردت أن أصرخ بعلو صوتي، لكنه محشور في أعماقي التي تبدو وكأنها مسلِّمة إلى أمر بات مقضيًا. بدأت أراجع أحداث يومي وأنبش ذاكرتي علِّي أجد تفسيرًا لحالي.
نعم، أذكر أني كنت محاطًا بكوكبة من الناس، وإنَّ فيهم من يلطم ويبكي، ثم لا أعي باقي القصة.
أأكون قد فارقت حياتي الدافئة، وصرت قابعًا في قبري أنتظر زيارة كيانات مرعبة، وأخرى مزعجة، وغيرها مخيفة؟ فأفعالي رديئة لا تسمح لي بأن أرى تلك الكيانات البريئة الطيّبة. تنقبض روحي، ويشتدُّ تعرُّقي، ويزيد لطمي لذلك الصندوق الترابي، فتتسرب حفنة نازفة من الأعلى لتسدّ أنفي، فينحبس الهواء هُنيهة.
كأنَّ القدر يسعفني فيزحزح تلك الحبَّات كي أتنفس. علمت حينها أني داخل قبر، وأنَّ للقبر زوايا متشابهة، غير أنها لا تحتوي ممرًا منه أعبر. لكني لست واثقًا إن كنت قد دُفنت حيًّا أم أني فارقت الحياة لأُبعث من جديد كي أُعذَّب داخل هذا المسكن.
بكيت واعتصرت الدمع، وحرَّكت شفتاي وكذا لساني فأخرجت قولًا لست أدري، قد يكون دعاء، لكن قدماي باردتان، وساقاي ناشفتان صلبتان. كم أودُّ أن أسحبهما نحوي. لكني نحيف! وهذا يكفيني. سأسمح لنفسي بمغازلة جولة أخرى لعلِّي أغيّر من رقدتي، لكني سأحاذر كي لا يسقط التراب من علٍ فيقتلني.
شرعت مجددًا في التقلُّب بحذر، وسحبت يدي من تحتي، وصعدت بجانبي قليلًا، فإذا بشيء من الفرج يُشعرني أنّي قادر على الاستقامة وملاقاة الأعلى، حيث سقف الغرفة، القبو، القبر.
لقد فعلتها، فأسعدني ذلك بشدَّة. ضحكت، ثم فتحت عينيَّ لأنظر، فإذا بسقف محكم البنيان. حجارة من الإسمنت أعلم شكلها وصلابتها، أحملها مع رفيقي ليحصل الأجر. لكني بمفردي! أين رفيقي؟ فبكيت وصرخت وعاندت مجددًا، ونبشت الخرقة التي تلفني، فسقط جزء على قدمي، حينها علمت أني شبيه كيان علق في حقل من الألغام.
لا بأس، أنا الآن ميّت، فلا مناص من المحاولة، لكن بأكثر حذر. يدَيَّ متحررتان، سأمزِّق ثوبي. نعم، فعلت، وهذا يكفيني.
ازدادت وحشة المكان حين أحسست بيد تسحبني نحو الأسفل، وكأنها تقبض روحي المنفلتة من ثوبي، فأرغب في الصياح كي أخبر أصوات زوّار أسمعهم في الأعلى. إنها دندنة، لا بل أدعيات تكرّرها ألسن متغيرة أصواتها. أصرخ وأصرخ وأدقُّ تلك الحجرة وأحرِّكها بقوة فلا تتزحزح، أحدثهم قائلًا:
= إني أسمعكم، أصغي إلى دعائكم، إنشادكم، ارفعوني إلى الأعلى، فإن بي نبضًا.
أسمع صدى أصوات، وكأنها تحاورني:
- غفر الله ذنبك، ووسَّع في قبرك.
أكرر صراخي لتوهُّمي أنهم أحسُّوا بوجودي:
= احفروا، وحاذروا، وترفّقوا، فإنّ في القبر صدعًا، فقد يقتل العرق النابض داخلي.
يردد أحدهم:
- ترفق، ربي، بعبدك، فإنه ابن أمتك، كان يشهد أنك إله واحد.
فأزيد في مناشدة صاحبي:
= أنا هنا، فأوقف كلماتك، وادعُ الجمع ليزيحوا الأتربة عنِّي، فإنَّ في الأسفل عبدًا يترجَّى.
يقول:
- إنَّه عبدك يترجَّى عفوك، وإنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عنه.
= لا، لم تفهم قصدي يا صاحبي! إني حيٌّ، وإني في حفرة ساخنة كأنها بقايا نار.
سمعت كلمات متواترة، التقطت بعضها، فيقول صاحبي، وكأنه يواصل حواره معي:
- ربنا، لا تجعل قبره حفرة من حفر النار.
ظننت أنه يلاعبني ذاك الشيخ، فزدت في رفع صوتي علِّي أصيب سمعه، فرددت قائلًا:
= الحساب ما زال مؤجلًا يا شيخ، فأجّل ترديد مداد تلك الكلمات السخيّة لغيري.
يردد في الأعلى قائلًا:
- ربنا، لا تؤاخذه بما لَغِي، واغفر له قدر عدد مداد كلماتك.
نعم، هو يلاعبني، وهم في الأعلى يزيحون عنِّي تلك الكومة، فأردِّد قولي قائلًا:
= اختم يا شيخ الدعاء، فإنك أطلت، وإنَّ بالجمع شيوخًا ومرضى.
يعمُّ صمت خفيف لأسمع قوله:
- وإنَّ آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أيُّ سعادة شعرت بها، فالشيخ يختم قوله، لكنَّ الحركة من حولي قد هدأت، لا أسمع صوت المعاول، ولا صراخ صديقي وهو يضرب الأكفَّ كي يشجِّع ويشدَّ العزائم. لقد رحلوا فعلًا، تركوني في حفرة ضيِّقة لا تحمل في أركانها صفاءً ولا ودًّا.
إنّي أتعرَّق مجدَّدًا، أتحنَّط مثل مومياء لا تزال ترغب في جولة أخرى في هذه الحياة. أستمع جيِّدًا لخفقات قلبي، وأشعر بأنفاسي وهي محشورة في الأعلى كأنها تستأذن كي ترحل.
بقيت على حالي وأنا أصارع زنزانة أسفل الأرض، وأدرك أنَّ مصيري الفناء، غير أني أكابر وأزيِّف حقيقة باتت جاثمة على صدري. انتفض جسمي من لدغات صغيرة، إنها تسري مثل سريان ماء الجدول إبَّان سيلٍ سخيٍّ، وتصعد إلى حيث بطني. جيش من الديدان غريبة الهيئة لا يشبه التي نعرفها، بها طول، وزنها زائد، قوائمها وافرة، وتفاصيل رأسها مكشوفة للمبصر، بدأت تقضم لحمي، وتمزِّق أحشائي، وتستلّ خبايا جسدي. إنها تؤلمني، فأضراسها شبيهة بالكلّوب الحادّ، تنزله على جسدي النّحيف فتصيب منه نصيبًا. أصيح وأنهر بعضها، وأضرب بيدي فأزيح منها أضعفها، لكنَّ أشرسها تحدِّثني قائلة:
- ألا تكفَّ صنيعك يا ابن آدم، ودع شأنك للديدان تنظِّف أدران نفسك؟
تتكلَّم! بها لسان يحمل أشواكًا، وقواطع بها ثقوب كأنها تُمرِّر في كل مرَّة سمًّا عزافًا يعلق في لحمي. لا مناص من محادثتها، لعلَّها كبيرتهم، فقد أظفر بمخرج أو اتفاق.
أقول بصوت مكسور:
= هل أنتم آكلو لحوم البشر؟
- لا، بل نحن جنود مرسلون، وللحمك لممزِّقون، فأنت اليوم ميت، وجثَّتك أضحية لنا. اليوم نجعل منك وليمة، ولن نبارح المكان حتى ننزع عنك لحمك، ونترك عظمك لغيرنا.
= وهل يبقى بعد اللحم ما يُؤكل؟
- لا، بل بقي ما قد يُضرب ويُدق إن كنت آثمًا.
= لكني حيٌّ أُرزق، فالنبض لا يزال يسكنني.
- أنت تتوهَّم، وأحسبك تهذي هذيان الميت عند القبر.
= وهل يهذي الميّت عند قبره؟
- نعم، يهذي حتى يرانا، وها قد رأيتنا.
= لكني أدرك جيّدًا أني حيٌّ أُرزق، فدعوني وارحلوا.
- لا، لن نرحل. نحن فرقةٌ أمرونا أن نلتهم بطنك، مكمن شهوتك، ثمَّ عينيك الماكرتين نستلهما كي تنقص ذنوبك.
تنهي قولها وتنغمس في جسدي بين لحمي وأضلعي، فلا أرى سوى بعضهم. أشعر بهم، بحركتهم، بقواطعهم الحادَّة وهي تُقطِّع أوصالي، تخدش أحشائي. حركتهم غريبة مفزعة، ودبيبهم مخيف. بعضهم من تحتي، ومنهم من ظهر مجدَّدًا وعلى وجوههم بقايا من بدني. بدأت أتقيَّأ حتى دنت مني كبيرتهم قائلة:
- نحن فرغنا من أحشائك، وآن أوان تلك العينين نلتهمها ونرحل.
أردُّ وفي قولي حشرجة. صوتي مثقل، وبي كلامٌ حُشر في حلقي يأبى أن يخرج. أقول:
= بحقِّ من تؤمنون به، ومن تسبِّحون باسمه، أن ترحلوا، فإني ما زلتُ بعدُ حيًّا أُرزق.
كأنها تقهقه، فتقول وفي قولها سخرية:
- إنَّك جثة عفنة بدأت لتوِّها تتعفَّن، وما نحن سوى دود الكيان ننخر معدن الأشياء فنحيله إلى الفساد والفناء. فدعك من لغو سكنك، وكُفَّ عن لغطك، فقد لهت بك الدنيا ولهوت حتى أصبت منها نصيبك، فلن نرحل حتّى نقتلع لك أحداقك...
تنهي قولها، فلم أعد أراها، لعلَّها رحلت!
لا، بل أشعر بها داخل المقل، إنها ثقيلة مزعجة، قوائمها تؤلم بؤبؤ العين فتخدش صفاءً قدَّ من بلُّور ناعم. إنها تفتك بنسيج محكم أبدعه من لا تطاله أيادٍ ظالمة آثمة.
تنهدتُ وسألتُ نفسي إن كنتُ أحفظ من كلام المولى نزرًا قليلًا أزيح به هذا الكرب.
أيُّ غرابة! ليس في ذهني كلام، ولا أملك على لساني قولًا كريمًا. أيُّ شقاء! إني مكبَّل، وذلك العدو ينخرني. كأنهم يردِّدون تعويذة، أسمع صدى أصواتهم مثل سكاكين حادّة، أو سيوف قاطعة تضرب بعضها. إنها تخرج من أماكن عدّة.
تحدّثني تلك الديدان مجتمعة:
- لنا عودةٌ هذه الليلة، فبعد رحيلنا يحلُّ عليك ضيف يسألك، يقف عند صدرك ويقعد قعدته لوليمة، فكن في انتظاره ولا تقلق.
يدبُّ السكون لثوانٍ قليلة، أو علِّي أظنها كذلك. لم أعد أشعر بجسمي. هي آخر الأنفاس التي ألفظها، ثم أغادر جسدي وأنا على يقين أني لا أزال حيًّا. مُسحت ذاكرتي، فلا أتذكَّر أمسي، لا عائلتي، ولا صحبتي الآفلة، ولا كلمات تعلَّمتها من لدن إمام المسجد. لقد خرس لساني، وأحكم الشيطان ربط عقده، فصرت بلا جوهر، بلا دين ولا مُرسل. أيكون المطلُّ بعد حين "نكير" أخا "ناكر"، أم أنها أسطورة من بقايا ملفوظ عابر؟
قطرة ماء تنزل على وجهي، رفعتُ ناظري فإذا بظلمة شديدة، ومن بين السواد ضوءٌ لامع، سواد حالكٌ وبقعة نورٍ لعلَّها لي تشفع. يفتح فمه فإذا بشفاهٍ غليظة، وعينين جاحظتين بهما غضب وسخط، منه الأطيار تفزع. ولسان طويل به غلظة، وأسنان وأنياب لا أظنُّ أنها نزيل خيرٍ لضعيفٍ مثلي سيشفع.
- اسمع،
يقولها، ينطقها فيُسقط من أعلى ترابٍ حصاةً شبيهةً بنيرانٍ تلسع.
يعيدها:
- اسمع، وبكلامي لا تستخف فتحزن، فإني ها هنا لأرفعك إلى أعلى، فإلى ربِّك فاخشع.
أصمت قليلًا، ثم أحاول أن أجيب، فلا أقوى على تحريك لساني العاجز، فعلى صدري جثة لا تستطيع الجبال عليها صبرًا، فكيف لي بأن أصبر وأنا ما زلت أُعدُّ خطوةً منها، أتعثَّر وأقع؟
- تكلَّم، فإني ها هنا لأسمع.
قلتُ وكأنَّ الصوت حبيسٌ بين حلق ولسان:
= إني ما زلتُ بعدُ ألفظ أنفاسي، فهلاَّ حرَّرتني من قيود قبرٍ زاد في حزني وألمي؟
يرد:
هو ذا أنت يا ابن آدم، خُلقت جزوعًا، وظننتَ أنك ستخرق الأرض طولًا، ولكنك اليوم بين مطرقتي وسنداني، وإنها لرمية واحدة فتخرَّ حيث أنت، وتفرَّ روحك خارج هذه الحفرة، فقل قولًا كريمًا أو فاصمت ولا تجزع.
= ترفَّق، إني لا أزال حيًّا أُرزق. لقد دفنوني بعد غيبوبة، فلا تمانع ولِيَ أصغِ، واعلم أنَّ محدِّثك ما زالت له جولة، وإني إلى ربِّي سأسجد وأركع.
- أنت تقولها دون ترتيب، وإنك اليوم تُسأل عن حاضرك وغائبك، فتحدَّث ولا تُطِل، فإني بي نفسٌ توَّاقة لتسمع أصوات صراخٍ منك تعبر إلى سبع سماوات، وتدنو بك إلى أسفل الأرض ولا تخرج منها حتى تخشع.
أرعبني قوله، صرختُ وتخبَّطتُ مثل غريقٍ يناشد منقذًا، رجوته أن يكفَّ ويتركني أواجه مصيري، رفض وألحَّ وأخذ يسحبني وأنا أصارع من أجل البقاء. لطَّخني وأحكم شدَّ وثاقي، وقبض بيديه على رقبتي فضيَّق عنِّي الخناق، ثم أعاد سحبي، فإذا بي أتشبَّث بأسفل الأرض الملساء، لكنه كان الأقوى.
هوى بي عند حفرة أعمق، شبيهةٍ بالبئر العميقة، فوقعتُ أُناشد أسفلها. كثر صراخي وتخبّطي، وخرجت كلماتي غير مرتّبة، لكنها أشد وقعًا من ذي قبل. كأني أرى تلك الحجارة وكومة التراب تنهار وتتبعني، وأنا لا زلت أكابد لأصل إلى قعر حفرةٍ مخيفةٍ لا يدرك بصري منتهاها. يلحقني ذلك العتيُّ وشرارٌ يتطاير من عينيه، لينتهي بي الأمر أسفل سردابٍ دون منافذ، ومخلوق عجيبٌ يسحب روحي دون شفقة.
صياحٌ وصراخٌ وصراع، تعرُّق وارتعاشة وتأوُّه محموم، وأصوات تنادي مسعفًا، فإذا بأيادٍ تحرِّكني، وبأفواهٍ تناديني، إنهم فوقي، وجوهٌ واجمة، وأخرى ضاحكة، العائلة من حولي، وإني حيث أنا لم أُغادر غرفتي... أيُّ كابوسٍ أيقظ مضجعي؟
مقال رائع صديقي احسنت النشر
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.