قيود وأغلال التدخين!

وقف أحدهم على الناصية المقابلة للبيت تتدلى السيجارة من فمه، يرفع يده في حركة بهلوانية، يأخذ نفساً عميقاً، ينفثه في راحة وكأنه ينفث أطناناً من الهموم من صدره، شعرت وكأنه يتلذذ بكل نفس يأخذه، ابتسمت عندما تذكرت نفسي وأنا أقف نفس الوقفة، وأفعل ذات الحركات في فترة سابقة من حياتي كان التدخين جزءاً منها، تذكرت كيف كان إصراري على التدخين، وعلى كوني مدخناً لدرجة أن صديقاً لي -مدخن أيضاً-  اقترح علي أن نقلع معاً على سبيل تشجيع بعضنا البعض، ولكني رفضت الفكرة مباشرة، وقلت له في سخرية: "إن كنت تريد أن تقلع يا صديقي فهذا شأنك، أما انا فلا".

أتذكر هذه الفترة من حياتي وكأني شخص آخر حقاً في كل شيء، وأفكر في نفسي قائلاً: "من كان يتوقع لهذا الشخص أن يصبح ما عليه اليوم"،

اليوم أنا مقلع عن التدخين لي أكثر من خمس سنوات، تحديداً من شهر رمضان المبارك عام 2017م ولله الفضل والحمد، كنت أنا أول من يقلع بين أصدقائي على عكس التوقعات تماماً، واليوم لي صديقان كذلك أقلعوا عن التدخين تماماً ولله الحمد، وثالث يحاول أن يقلع، أدعو الله له بالتوفيق في التخلص من هذا العادة اللعينة.

ولكن يظل السؤال: ما الذي يميز هؤلاء الذين يقلعون عن التدخين عن الآخرين الذين يعتبرون أن الأمر مستحيل فعلاً.. أو بعبارة أخرى ما هي نقطة التحول التي حدثت لتقنعني أنه من الممكن أن أقلع بعد أن كنت على يقين أني لن أفعل؟

الفكرة التي تأخذها عن نفسك

ستة أعوام أمارس فيها التدخين بشكل يومي، أصبح التدخين جزءاً من حياتي، ومع الوقت أصبح من الصعب تصور حياتي بشكل آخر، ومن جانب آخر أنا محاط دائما بأناس يخبرونني أن التدخين عادة لا يمكن الخلاص منها، وبذلك تكونت فكرتي عن نفسي.. أو قصتي التي أخبرت بها نفسي وكررتها لها مراراً وتكراراً، وأكّدها لي من حولي حتى أصبحت حقيقة جاثمة لا مفر منها "أنا مدخن وشكرا"، ولا حاجة بعد ذلك للتفكير أصلاً في الإقلاع.

"لماذا أجهد نفسي في شيء لا يمكن تحقيقه؟" عليّ أن أتعايش مع حياتي بهذا الشكل، وهكذا بنيت أنا السجن الذي حبست فيه نفسي لبنة لبنة، وأحكمت الإغلاق على نفسي، وقذفت بالمفتاح خارجاً حتى لا يعود بمقدوري إلا الحياة في حيز هذا المحبس الضيق.

بداية التحرر

في أواخر عام 2016م سقط في يدي كتاب للدكتور شريف عرفة بعنوان "برمج عقلك"، وعلى الرغم من أن لدي بعض التحفظات على التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية حالياً إلا أن وقتها لم تكن لدي هذه التحفظات، لذا قرأت الكتاب كاملاً وساعدني على ذلك لغته العامية السهلة.

وبين طيات هذا الكتاب كانت هناك مقالة يحكي فيها د. شريف عرفة عن التدخين، وعن تجربته الشخصية في الإقلاع مصحوبة ببعض النصائح، وقلت في نفسي: "ماذا؟ لقد أقلع عن التدخين، إذن هناك بشر مثلنا استطاعوا أن يقلعوا، إذن الأمر ليس مستحيلاً كما أتصور"، وكانت هذه الضربة الأولى التي تُوجه لجدار محبسي السميك، وكانت الأهم ولله الفضل ثم لهذه السطور التي كتبت بقلم د. شريف عرفة وله جزيل الشكر والعرفان.

تجارب فاشلة

ومنذ هذا الوقت يا صديق وأنا أحاول مرة بعد مرة، حاولت كثيراً أن أقلع نهائياً مرة واحدة، لكني لم أفلح في ذلك إلا لبضعة أيام فقط، وحاولت بعد ذلك الإقلاع بالتدريج، وهو عن طريق تقليل عدد السجائر التي أدخنها في اليوم كل يوم سيجارة حتى أقلع نهائياً، ولكني لم أفلح كذلك، صحيح أن عدد السجائر التي أدخنها تناقص حتى أصبح لا يتجاوز العشرة سجائر يومياً، وهو عدد قليلٌ نسبياً في حياة أي مدخن يحترم نفسه، ولكني كنت أطمع في المزيد.. كنت أريد حريتي كاملة.

التحرر الكامل

وأخيراً يا صاحبي أقلعت عن التدخين نهائياً في رمضان لعام 1438هـ و27 أيار لعام 2017م، وكان ذلك بعد محاولات عديدة فاشلة، ومن يتأمل أسباب الفشل ويمر بطرقه الكثيرة يعرف بالتأكيد أسباب النجاح، ويكون من اليسير عليه أن يأخذ طريقه.

أسباب الفشل وطريق النجاح (السبب أو الهدف من الإقلاع)

عندما بدأت أولى محاولاتي في الإقلاع عن التدخين كان السبب الرئيسي هو توفير المال، حيث كنت أمرّ بضائقة مالية حينئذٍ، والمال أحد أهم المحفزات البشرية على الإطلاق إلا انه غير كاف تماماً للإقلاع عن التدخين، أو تغيير عادة ما مارستها بانتظام وبشكل يومي لمدة سنوات، وهذا ببساطة لأن المال سبب خارجي وغير مستدام، وما كان يحدث هو أني أقلع اليوم عن التدخين بسبب ضائقة مالية ألمّت بي، فإذا جاء الغد وفرج الله عني ضائقتي المالية لم يعد هناك سبب مقنع بالنسبة لعقلي أن أحرمه من جرعة النيكوتين، وكأن لسان حال عقلي يقول لي: "كنت تتحجج بالمال، ها أنت ذا لم يعد لديك حجة أعطني جرعة النيكوتين من فضلك"، لذلك عليك أن تجد سبباً يستمر معك في كل ظروفك ويكون مقنعاً لعقلك للإقلاع عن التدخين. ومن أهم الأسباب من وجهة نظري هي الإباء الشخصي، وهو كره أن ترى نفسك ذليلة لعادة لا تقدم لك إلا بعض الأمراض وتسلب منك شبابك باكراً.

سد الفجوات

التدخين عادة تستقطع الكثير من الوقت، وإن كان لا يشعر المدخن بهذا الوقت لأنه غالباً يدخن أثناء قيامه بعمل آخر، مثلاً أثناء شرب القهوة أو الشاي وبعد كل وجبة، وعند الاستيقاظ من النوم، وأثناء تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، وخلال العمل في الأماكن التي لا تمنع التدخين، وطبعا في الحمام، وهذه كانت المفضلة بالنسبة لي.

المهم أنه مع الوقت تتحول هذه الأوقات والأماكن إلى إشارات قوية تحفز عادة التدخين لديك، وخلال محاولاتي الفاشلة في الإقلاع كنت أترك هذه الأوقات التي اعتدت فيها التدخين فارغة، مما كان يجعل عقلي ينشط في هذه الأوقات، ويطالبني بجرعته المعتادة من النيكوتين، ولذلك من المهم جداً أن تملأ هذه الأوقات بشيء ما ليس بالضرورة مفيداً، ولكن على الأقل غير مضر؛ لأني أعرف أحدهم كان يحاول الإقلاع عن التدخين بتعاطي الحشيش.

بالنسبة لي كانت العلكة ولا سيما بنكهة النعناع، وبعض التسالي من الأمور المفيدة جداً، ولكن العادة الأهم التي غيرت حياتي تماماً كانت القراءة، وكنت أقرأ كلما شعرت برغبة قوية في التدخين، أقرأ حتى أنسى هذه الرغبة، طبعاً تستطيع أنت كذلك أن تأخذ هذا الطريق.

البيئة

يقال إن أكثر من 15% من جنود الأمريكان أدمنوا على تعاطي الهيروين خلال حرب فيتنام مما جعل واشنطن تؤسس مكتباً خاصاً لمنع تعاطي المخدرات، والذي كان يهدف إلى معالجة المدمنين، وتعزيز الإقلاع ومتابعة الجنود بعد العودة إلى البلاد، والغريب أن الأبحاث توصلت إلى أن 9 من أصل 10 جنود قد أقلعوا عن الإدمان بين عشية وضحاها تقريباً بمجرد عودتهم إلى البلاد دون الحاجة إلى تلقي أي علاج، وكانت هذه النتيجة مخالفة لكل المعتقدات والأفكار السائدة عن الإدمان بشكل عام، وعن إدمان الهيروين بشكل خاص.

كل ما حدث هو أن التغيير الجذري في بيئة الجنود صاحبها تغيير جذري في السلوك، كان الجنود في فيتنام محاطين بإشارات تحفز على تعاطي الهيروين، فلما اختفت هذه الإشارات كان من السهل عليهم الإقلاع.

 قبل أن أعرف هذه القصة وقبل حتى أن أقرأ عن فكرة العادات وكيفية تكوينها، كنت قد أدركت هذا من فشلي المتكرر في الإقلاع عن التدخين، الأمر ليس متعلقاً بقوة الإرادة وحسب، إنما هو كذلك متعلق بالبيئة المحيطة بك، لقد كنت محاطاً دائماً بأناس مدخنين، وأجلس على المقاهي بينما دخان المعسل والسجائر جزء أصيل من البيئة، زملائي في العمل يدخنون بلا استثناء، ولذلك كان ينبغي علي أن أغير البيئة المحيطة بي على الأقل خلال فترة الإقلاع، وهذا ما حدث.

بالنسبة لي كان رمضان في حد ذاته بيئة فعالة جداً حيث أصوم عن كل شيء لمدة 16 ساعة يومياً، وكل ما علي أن أمتنع عن التدخين خلال الثماني ساعات الباقية، لذلك قطنت في غرفة مستقلة وفي طابق مستقل من البيت طوال الشهر ولم يكن هناك أي تلفاز أو جهاز كمبيوتر، فقط أنا وهاتفي الجوال وعدد كبير من الكتب والروايات، وطبق مليء بالتسالي.

امتنعت خلال الشهر عن الذهاب إلى المقاهي أو الجلوس مع أصدقائي المدخنين، وكنت أتجنب كل شيء تقريباً من الممكن أن يحفز عادة التدخين لدي، وهذه الخطوة كانت الأهم، والتي جعلت الإقلاع عن التدخين أقل صعوبة، ولا أكون مبالغاً لو قلت إني لو لم أفعل هذا لما استطعت إطلاقاً الإقلاع عن التدخين.

المعرفة

في بداية إقلاعي قرأت مجموعة من المقالات وشاهدت فيلماً وثائقياً عن التدخين وأضراره العقلية والجسدية والنفسية، وعن ما يحدث في الجسم عند الإقلاع من أول يوم، كانت هذه المعرفة مهمة جداً وضرورية لتسهيل عملية الإقلاع، وذلك لأن أية عادة تدور حول المكافئة والتي تكون غالباً مغرية وممتعة، فمثلاً أنت تدخن لتحصل على بعض الراحة والاسترخاء، والدماغ يقوم بتحفيزنا لتكرار السلوكيات الممتعة، ويجعلها مغرية بالنسبة لنا، عندما تقرأ عن الوجه القبيح للتدخين، وتغذي عقلك بصورة التدخين القبيحة سيساعدك ذلك على جعل المكافأة أقل جاذبية أو إغراء بالنسبة لعقلك.

الرياضة

لكي أكون صريحاً أنا لم أمارس الرياضة أثناء إقلاعي عن التدخين، لكني اليوم أحاول أن أمارس الرياضة بشكل منتظم بعد أن تعرفت على الكم الهائل من الفوائد التي تصاحب الأنشطة الرياضية باختلاف أنواعها، ولذلك أقول لك جازماً إن الرياضة سيكون لها بالغ الأثر في تسريع عملية الإقلاع كما أنها ستساعدك على الاسترخاء والتخفيف من حدة أعراض الانسحاب المحتملة مع ملاحظة أني لم أشعر بأية أعراض انسحاب تذكر، ومن المهم كذلك اختيار نشاط رياضي لا تحتك فيه مع المدخنين.

هذه كانت تجربتي مع التدخين أتمنى أن تجد فيها بعض الإفادة، وإذا كنت تريد أن تتعمق أكثر في فهم آلية عمل العادات وكيفية تغييرها أنصح بكتابين مهمين جداً هما: "قوة العادات" لـ (تشارلز دويج)، و"العادات الذرية" لـ (جيمس كلير).

في النهاية تذكر أن بداية الإقلاع يبدأ بفكرة واحدة تتغير داخل عقلك، وهي أنك تستطيع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.