في زاوية المقهى، حيث تختلط روائح القهوة بأوراق الخريف المتساقطة، تجلس فتاة تشرب شايًا بحليب ببطء، وأمامها فنجان قهوة سادة بارد.
النادل الذي رأى آلاف القصص يعرف.. هذه علامة أخرى من علامات الحب المهجور، ولكنه تعلَّم ألا يتدخل، فقط يمسح الطاولة المجاورة بعناية، كأنه يمسح دموعًا غير مرئية.
«أتعلمين؟ أسوأ الحفلات تخلق أفضل الذكريات». هزَّت رأسها طاردة كلماته، فهي لم تكن تعلم أن هذه العبارة ستصبح نبوءة. فبعد عام، ستصبح تلك الذكرى دليلًا على أن بعض اللحظات لا تصلح إلا لأن تكون ندبات.
الشتاء كان شاهدهم الأمين، في برد فبراير، تعلَّمت كيف تمسك بيده لتشعر بالدفء، وفي ليالي مارس الطويلة، اكتشفت أن القهوة السادة التي كان يشربها تشبه شخصيته، مُرة في المذاق، لكنها تترك أثرًا دافئًا في الصدر. أما هو، فكان يفضل شايها بالحليب، «حلو أكثر مما يجب مثلها» كما كان يقول مبتسمًا.
لكن الفصول تتغير، والناس أيضًا، مع أول أنفاس الربيع، فجأة اتسعت بينهما المسافات كظلين يتباعدان مع شروق الشمس.
وفي أحد الأيام القاتمة، وجدت رسالته الأخيرة: «لست قويًًا بما يكفي لهذا». ولكنها لم تستطع أن تدرك ما الـ«هذا»؟! وما معنى هذه الكلمات؟! فكَّرت في معنى رسالته كثيرًا وهي لا تستوعب ماهيتها!
هل أنت لست قويًّا بما يكفي للحب؟ أم للوفاء بالوعد؟ أم إنك لست قويًّا بما يكفي لتستحق الحياة بجواري؟! سبع كلمات فقط، كانت كافية في نظره لتسحق وتدفن هذا الفصل كاملًا وكأنه لم يكن.
الآن، وهي تجلس في المقهى ذاته الذي أحضر لها فيه باقة الورود أول مرة، متمنيًا أن تقبل الزواج منه فقط من شهور معدودة، أدركت الفرق الجوهري بينهما، فهي خُلقت محاربة، مستعدة لخوض معركة الحب والحياة حتى النهاية، في حين هو خُلق ليستسلم.
فبعض البشر يكتفي بالحب شعورًا عابرًا فحسب، ولا يعرف أنه موقف وجودي. لا يعي حقيقة أنه اختيار يومي بأن تظل واقفًا ثابتًا عندما يفر الجميع، أو أن تشرب القهوة حتى آخر قطرة على الرغم من مرارتها.
تتنقل عيناها في المقهى، فترى في الزاوية المقابلة امرأة أخرى جالسه وحيده تشرب قهوة سادة وتحدق في الباب.
«القصة نفسها، الشخصيات فقط تتغير». تساقطت كلمات النادل على أذنها كالصفعات وهو يهمس لنفسه...
كم هو محق! فالمقهى يشهد يوميًا عشرات النسخ من الدراما نفسها... محبون يتحولون إلى غرباء، فقط ذكريات، وقلوب تتعلم أن الحب يحتاج إلى أكثر من المشاعر.
أخرجت الفتاة جاكيت من حقيبتها، ليست هناك حاجة له اليوم، لكن بعض العادات تبقى فقط عندها ولا تزول. الجاكيت الذي كان يحمله دائمًا، أصبح الآن جزءًا من عاداتها، ربما لأن بعض الأشياء تتحول إلى تمائم نحملها، وبعض القصص تبدأ بفنجانين وتنتهي بواحد، وكم من العشاق يظنون أن المشاعر كافية، ثم يكتشفون أن الحب يحتاج إلى أن تفي بما وعدت، حتى عندما يتغير الطقس، وتتبخر المشاعر، ويصبح كل ما تبقى هو ذلك الكرسي الفارغ أمامك، والفنجان الذي لن يشربه أحد.
لملمت أشياءها وتركت الطاولة في المقهى، الطاولة التي شهدت على امتحان نجحت فيه روح واحدة وتخاذلت أخرى.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.