لطالما قرأت في كتب التاريخ عن قناة السويس ... و لكن هذه المرة شاء القدر أن يسجل التاريخ رؤية عيناي لها... سينتابك في البداية شعور بالإعجاب بروعة مشهد النوارس المحلقة فوق مياهها و لكن سرعان ما يتلاشى الإعجاب بالنوارس و يبقى الشعور بالإعجاب و لكن هذه المرة بأولئك الذين استطاعوا أن يجعلوا منها قناة تسري فيها مياه البحر فتشعر لوهلة بالخوف و الرهبة حين تتخيل قوة و قدرة الإنسان الذي لطالما اعتبر نفسه ضعيفاً، يتوقف عقلك لهنيهنة عن التفكير تنظر أمامك بذهول تام، المياه تسري في المكان لو أن أحداً لم يخبرك بأنها قناة صناعية لم تكن لتستطيع أن تنفي بأنها من صنع الطبيعة.
لولا وجود كتب التاريخ و الجغرافيا و الخرائط القديمة لكانت المئة و الخمسون عاماً كفيلةً بمحي أي أثر للبشر و كنا ننسبها الآن للطبيعة. و لكن التاريخ لا يكذب و لا ينسى و أنت لو كنت قرأت سابقاً عن العمال المصريين الذين قاموا بحفر القناة بأدوات قد تكون أقل من البدائية و بظروف أقل ما قد يقال عنها بأنها خالية من الإنسانية. إذا أغمضت عينيك لوهلة و أنت تستنشق هواء السويس سيتجسد أمامك مشاهدٌ لأولئك العمال الذين يعملون في حر الشمس برغيف خبز واحد يقوت جوعهم و العرق ينصب من عليهم ستشعر بدموع أحدهم و ربما بعزم آخر ستشعر بالشفقة على حالِ أناس مرّ على موتهم أكثر من قرن و نصفٍ آخر ستتخيل أمامك الجثث المدبسة فوق بعضها و أولئك الذين كانوا طعاماً للجرذان الجبلية، هناك حكايات محلية تروي أن تلك الجرذان كانت تأكل أطراف العمال و هم نائمون منهكون من العمل، لو استرقت السمع قليلاً ستشعر و كأن كل شبر من القناة يصرخ أمامك بأسماء أبطالٍ أفنيت أرواحهم لتستطيع هذه المياه السارية أن تجري بسلام.
إن زرت قناة السويس يوماً ما استمتع بسمائها و بمناظر النورس الخلابة، لتشعر و كأنك في رحلة إلى تركيا، استمع لصوت الباخرات و استمتع بأشكال السفن، استنشق هوائها و كأنه تهويدة لنفسك و لكن مع كل هذا لا تنسى عزم شعبٍ و لا تضحية أهلٍ، لا تنسى أي مصريّ عاملٍ كادح كان سبباً في وجود أعجوبةٍ من عجائب الدنيا " قناة السويس " و إن كان العالم لا يصنفها كذلك.
بقلم: رولين ناجح جميل جعبري
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
تسجيل دخول إنشاء حساب جديد