في قلب الجنوب الليبي، حيث تمتد الرمال بلا نهاية، وتحت سماءٍ تحرقها شمس الصحراء، تقف قلعة سبها شاهدًا على تاريخٍ طويل من القوة والثبات، وتعلو فوق المدينة كأنها عينٌ تحرس الأرض، وتحكي حجارتها العتيقة عن أيامٍ شهدت صخب الحياة وحروبًا طواها الزمن وهدوءًا يسكنها الآن، لكنه ليس هدوء النسيان، بل هدوء من يراقب المستقبل بعين الماضي.
تاريخ بناء القلعة
بُنيت قلعة سبها في عهد الدولة العثمانية بين 1978 و1980 حسب ما تذكر المصادر التاريخية، ولم تكن قلعة سبها القلعة الوحيدة التي بناها العثمانيون في ليبيا، بل بنوا معها -ضمن إصلاحات عامة- قلاعًا أخرى في الشمال الليبي وجنوبه، وكان ذلك في عهد السلطان أحمد راسم باشا، وقد شُيدت القلعة على أنقاض قصر السلطان محمد بن جهيم، أحد حكام دولة أولاد محمد، التي بسطت سيطرتها على جنوب ليبيا منذ 350 عامًا.
موقعها
تقع القلعة على أعلى نقطة في مدينة سبها، ما منحها موقعًا استراتيجيًّا جعلها مركزًا للتحكم في الطرق التجارية القديمة التي تربط شمال ليبيا بجنوبها. بُنيت بأسلوبٍ يمزج بين العمارة العسكرية التقليدية والهندسة الصحراوية التي تتيح مقاومة الظروف القاسية. جدرانها السميكة، المصنوعة من الطوب والطين المدعَّم بالحجر، صُممت لتقاوم حرارة الشمس الحارقة نهارًا، وبرودة الليل القاسية.
القلعة في التاريخ
خلال العصور المختلفة، أدت قلعة سبها أدوارًا متعددة، فقد كانت في البداية مركزًا للحماية، ثم تحولت إلى مقرٍ للسلطات العثمانية والإيطالية لاحقًا، في مرحلة الاستعمار الإيطالي، استُخدمت قاعدة عسكرية لمراقبة الجنوب الليبي، وفي العهد الحديث، أصبحت رمزًا للسيطرة السياسية خلال حكم العقيد معمر القذافي، إذ كانت أحد أهم المواقع الاستراتيجية للنظام.
تصميم القلعة ومكوناتها
عند الاقتراب من القلعة، يبرز مدخلها الضخم، المحصن بأبوابٍ خشبية مدعَّمة بالمعدن، وتفتح على ممراتٍ ضيقة تقود إلى الساحة الداخلية. ويحيط بالساحة عدد من الغرف ذات الأسقف المقببة التي كانت تُستخدم مخازن للأسلحة والطعام، إضافة إلى زنازين احتُجز فيها الأسرى خلال أوقات النزاع.
وتتكون قلعة سبها من طابقين، الأول يشتمل على قاعات وغرف خصصوها سكنًا لجنود الحراسة، وبها نوافذ تطل على المدينة لمراقبة ما يدور حول القلعة، أما الطابق الثاني فيبدو من المقر الصغير به أنه محل إقامة القائد العسكري وحاكم القلعة.
الأبراج العالية التي تتوزع في زوايا القلعة كانت تُستخدم لمراقبة الأفق البعيد، إذ يمكن رؤية القوافل القادمة من عمق الصحراء قبل وصولها بأميال. في الداخل، ما زالت آثار الحياة القديمة موجودة، من بقايا أثاث خشبي إلى نقوشٍ باهتة تروي بعضًا مما كان يدور خلف هذه الجدران.
بين التاريخ والنسيان
مع مرور الزمن، فقدت القلعة دورها العسكري، وتحولت إلى معلمٍ سياحي مهم، لكنها لم تحظَ بالعناية الكافية، فأصبحت جدرانها متصدعة، وأجزاؤها العلوية مهددة بالانهيار. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال القلعة تحتفظ بهيبتها، كأنها تتحدى الإهمال، وتنتظر من يعيد إليها مجدها القديم.
اليوم، يزور القلعة بعض المغامرين والباحثين عن التاريخ، يتجولون بين ممراتها، يلمسون حجارتها، ويستمعون إلى صمتها، ذلك الصمت الذي يحمل صدى خطواتٍ قديمة، وأصواتًا لم تندثر تمامًا، وكأن القلعة على الرغم من كل شيء؛ ما زالت تحرس الجنوب وتروي قصصه، وتنتظر فصلًا جديدًا من تاريخها الطويل.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.