قصة "يوسف هبة من السماء".. قصص قصيرة

الذرية هبة إلهية، ووديعة ربانية عند بني البشر، بغض النظر عن الجنس، ذكرًا كان أم أنثى، لقد أوكل الله سبحانه إلينا واجب رعايتهما وحمايتهما وحسن تربيتهما وتعليمهما، لكن شطط كثير من الرجال الشرقيين للأسف تمادى بهم إلى تفضيل المواليد الذكور عن الإناث دون وجه حق...

وفي هذا السياق أسرد لكم قصة (المهدي) الذي أنجبت له زوجته خمس بنات في عمر الزهور، وعقب كل عملية إنجاب ينتظر وهو في حال أحر من الجمر أن يهب الله له ولدًا، هو لا يجاهر برغبته مراعاة بإحساس زوجه بشرى التي يحبها حتى النخاع، في حين هي باتت تشعر بما يضمره في خاطره من حركاته وسكناته، وردود فعله في مواقف مجتمعية عدة...

سلمت أمرها لله، وكلما صلّت ترفع أكفها بالدعاء للمولى عز وجل أن يحقق أمنيته، ومن شدة إلحاحها بالدعاء بلسان رطب ندي يلهج بذكر الله صباحَ مساءَ، استجاب لها المولى عز وجل، ورزقها بذكر سماه يوسف.

عندما تناهى الخبر إلى مسمعه انتشى فرحًا، وخر ساجدًا لله على ما أعطى، هرول إلى المستشفى يحث الخطا مسرعًا، وبمجرد أن اكتحل ناظره برؤيته انحنى على سريره، ورسم على جبهته قبلة، ثم أذن في أذنه، ولم ينس حبيبته وأم بناته التي خصها بقبلتين على وجنتيها تقديرًا لها.

ومن فرط إحساسها بصدق مشاعره سرت قشعريرة في جسدها، واكتفت بابتسامة خجلى، أما البنات فقد ابتهجن سرورًا واغتباطًا، وأخيرًا أصبح لهن أخ يتهن به فخرًا.

يوسف هبة من السماء، عاش في كنف والديه أميرًا، ارتشف رحيق الحب الذي أحاطه به والده بجرعة زائدة، وسط بساط من العواطف الجياشة، ولما فاض الكيل أثارت بشرى انتباه زوجها إلى أهمية العدل بين ابنه وبناته، فليس ضمان المأكل والمشرب والملبس وحده كفيل لإشباع رغباتهن، وإنما لهن الحق في نصيبهن من الحب والاهتمام.

المهدي من جهته تفهم الأمر، وعبر عن عدم قصده حرمانهن، لكنه فعلًا سرعان ما عاد إلى عادته، وكأنه مربوط بحبل وجداني لا يستطيع التحكم به.

أتم يوسف أربع سنوات من عمره، وفي يوم رجع من الروضة متعبًا، يبدو الإجهاد على محياه، أبلغت المربية أمه أنه أصيب بنزيف دموي في الفصل، نادت أباه، وحملاه إلى الطبيب، هرع المهدي متعجلًا مرتبكًا يتفحص جسم ابنه الوحيد، ويضمه بين يديه، وقد ارتفعت درجة حرارته، وفي الطريق زادت خشيتهما عليه حين أسر إليهما بأنه يحس بألم حاد في مفاصله، حضنته أمه بحنان، ثم استسلم لنوم عميق.

لما وصلا العيادة أخضعه الطبيب لفحص سريري، وأشار عليهما بضرورة إجراء تحاليل للدم، وأشعة مقطعية بالمستشفى المركزي.

- ماذا هناك يا دكتور، هل حال ولدي شديدة الْخَطَر؟

- نحن في طور التشخيص، وفي انتظار نتائج الفحوص، أسرعوا بإحضارها حالًا...

جواب الطبيب أربكهما كثيرًا، وراحا ينجزان ما طلب منهما، وبعد طريق طويل تجرعا فيه مرارة الانتظار والتسويف عادا وبيدهما ملف طبي مختوم، منحه الأب للطبيب، وجلس أمامه يترقب جوابه: راح يتفحص مكونات الملف بإمعان، ثم سكت هُنيهة، وقال:

- اتضح أن لديه انتفاخًا في الغدة اللمفاوية، مع كدمات على الجلد، وانطلاقًا من هذه الأعراض وغيرها، أسفرت الفحوص جميعها على أن يوسف مصاب بمرض سرطان الدم.

تجمد الأب في مكانه من وقع الصدمة، خرس لسانه لحظات، وانسابت العبرات على خديه، ربّت الطبيب على كتفه مواسيًا:

- لا تقلق، المؤمن مصاب، وكل داء له دواء.

- هل من أمل في علاج ولدي، يا دكتور؟

- اطمئن، يحتاج الآن إلى علاج كيميائي مكثف، سنبدأ بحصته الأولى.

- شكرًا يا دكتور، ولدي أمانة بين أيديكم.

أدخل يوسف فورًا إلى العناية المركزة، فخرج المهدي ليخبر زوجته، عندما علمت بالنبأ أصابها دوار فسقطت طريحة الأرض، أخذها بين يديه وقال:

- لا عليك يا حبيبتي، أنا على يقين أن ابننا سيشفى بإذن الله.

بعد أربع ساعات أخرج يوسف من قاعة العلاج الكيميائي منهك القوى، ضيق النفس، كثير التعرق، مصفر الوجه، رجعا به إلى البيت، فأحاطت به أخواته يقبلنه بشوق، وهو يذرف الدموع، كأنها دموع مودع، منذ خروجه من المستشفى بدأت تتدهور حالته يومًا عن يوم، إلى أن أسلم الروح إلى بارئها ذات صباح.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة