يُطعمني أبي الكذب دائمًا حين يخبرني بأنَّ الحياة جميلةً، فأدخل لها وأنا واثق الخطى، أمشي متبخترًا بقول والدي كملكٍ لم يعلم أن عرشه زائف. وما صادفته أمامي لم يكن شيئًا سوى الحزن الشديد والمقت الأليم.
قيل لي بأن وطني كان مزدهرًا يومًا ما، كوردة كل فصولها الربيع، كشجرة لم تذق طعم الخريف، ولكن منذ ما ولدت وأنا أرى الدمار وصور الوجع، فحاولت جاهدًا أن أرى وطني من منظورٍ مختلف، أن أتسلل مباغتًا لعلي أقبض عليه في حلةٍ جميلة، وحين فعلت ذلك لم أرَ شيئًا سوى السواد نفسه، ولكن من زاوية أخرى.
فقلتُ لنفسي محدثًا: ربما والدي ومن معه من كبار السن هم كتلك الأسماك التي لا ترى مسكنًا لهم غير أعماق المحيطات وظلماتها.
نعم ربما هم كذلك حقًا.. إصرارهم العجيب لجمال الوطن القديم يذهلني بحق، وأرواحهم المحاربة تقبض على أذيال خيالاتهم الطائفة فوق السحب، فلا يزالون يقسمون لي برب السماوات السبع بأنَّ الوطن كان بيوم من الأيام جميلًا. أطلقت لهم زفيرًا طويلًا يدل على ضجري من هذه الأسطوانة المتكررة، فالموسيقى الخارجة منها تبدو بعيدة ووهمية ولا مجال هنالك لتصديقها.
- انتظر قليلًا سأعود حالًا.
قال لي كهلٌ طاعنٌ بالسن: هذا وتشعر لوهلة في لحظة شرود ذهنك، بأن الموت قد نساه ولم يقبض على روحه. جعلتني مدة الانتظار الطويل أعتقد بأنه قد نسي أن يعود، أو ربما أضاع طريقه وذهب ليعيش في أحلامه الوردية بخصوص وطنٍ جميل لم يكن يومًا موجودًا.
يقف أبي مع فريق كبار السن الذين يؤمنون بوهم بلدهم، ذاك الذي يتحدثون عنه. وحين كنَّا ننتظر رفيقهم الكهل حتى يعود أخذوا يحملقون بي بابتسامات قد رسمت على شفاههم وملأت صفحات وجوههم.
لا علم لي عن هذه الثقة المفرطة بالانتصار من قبل أن يحصلوا عليه. فهم متأكدون من أني سأعلن استسلامي وهزيمتي. يرون الأمر تحديًا وأراه لعبة تسليني وتُبعد الضجر عني.
أنا بنظرهم شاب أحمق يعتقد دومًا بأن قوله صحيح، وهم بنظري أشخاصًا خرفين لم تعُد عقولهم تعمل على نحو جيد، فيرون سرابًا بعيدًا شكلوه وصدقوا وجوده.
عاد الكهل يحمل بيده صندوقًا صغيرًا، يتمسك بهِ بقوة وكأن عمرًا مديدًا بداخله، فعلمت على الفور من أن ما يحتويه شيء يجب الحفاظ عليه.
وضع الصندوق على المنضدة التي كنَّا حولها، ثم ابتسم كاشفًا عن ثغره الخالي من الأسنان، فظهر كهفًا غائرًا لا نهاية له، مرعب ويبعث على الاشمئزاز.
حدجت الجميع بنظراتي متمسكًا بجديّة أفكاري ومبعدًا عني خرافات أسلافي، فرأيت بريقًا يخرج من أعينهم يستطيع أن ينير ظلمتي. ما بهم يا ترى؟ وجاء الجواب من أحدهم، حيث قال لي أبي بصوته الواثق ذاك:
- افتح الصندوق.
نظرت نحو الصندوق وسألت نفسي ما دخل الوطن به، ثم حدقت لوالدي ورفاقه وكم أفزعتني ملامحهم التي عادت للجمود بعد أن كانت في بساتين الضحك تقفز.
مددتُ يدي على مضض لأرى ما يحتويه ذلك المربع الصغير. متوترًا... مرتبكًا... خائفًا من أن قولهم يكون صحيحًا في نهاية المطاف. إننا نحب أن نعيش في المجهول حين يكون الواقع مؤلمًا، وجدتُ نفسي بعد لحظاتٍ أنظر إلى صور فوتوغرافية لمدينة خيالية لا وجود لها.. فعمَّ الارتياح جسدي وحلَّ السرور قلبي، وأطلقت ضحكة طويلة ساخرة طافت الشوارع المتآكلة وتردد صداها المباني المحطمة، وقلت لهم وأنا بالكاد أمسك قهقهتي:
- أتخبرونني... أتخبرونني بأن هذه هي المدينة نفسها التي أنا بها الآن؟
ما رأيت ردةَ فعلٍ منهم ولا سمعت لهم همسًا. فصمتُ بدوري سريعًا مقطبًا حاجبيّ. وقلت لهم:
- انظروا كفى لعبًا، لن تستطيعوا خداعي وهذه هي الحقيقة المُرَّة التي لا تريدون سماعها.
قال أحدهم:
- إننا لا نخادعك ولا نبغي فعل هذا.
زالت الابتسام من على محياي حين رأيتهم أخشابًا متسمرة. فوقفت مستغربًا وظللت متفكرًا. أحقًا لا يمازحونني؟ أصدقًا يقولون؟ ولكن لا! عنادٌ تسلقني فبقيت على إنكاري مصممًا.
وأما هم فمثلما كانوا لا يزالون صامتين قابضين بشدةٍ على قرارهم لا يرومون عدولٍ عنه، حدقت طويلًا بهم وغصت عميقًا في تجاعيدهم، حاولت أن أنظر لِمَ وراء الجلود الميتة والغضون الكثيرة، لعلَّ ضحكةً تخرج من العدم تفصح عما يختلج بدواخلهم، ولكني ضعت في خطوط ملامحهم وتهت خلف أخاديد جباههم.
مللتُ من صمتهم الطويل فقررت أن أسير معهم في نفس طريقهم الخياليّ. فرُحت أقلّب الصور وأحاول أن أطابقها على أرض الواقع.
كان هنالك تشابه بالأماكن ولكن اختلافًا شاسعًا في البنيان والعمارة والجمال، وحتى ألوان تلك الصور كانت مفعمة بالحيوية والحياة. وأما مدينتي أنا التي أعيش بها الآن فمنطقة رمادية، التصق في سمائها رماد الحروب وأدخنة المدافع، فلم أعد أميز الألوان وعُميت عن الجمال. تعجبت من أمر تلك الصور وألقيت بها غاضبًا صارخًا نحوهم:
- إن ما تفعلونه ليس بمضحك.
وهنا رأيت الدمع يغرورق بأعينهم. فما كان لي إلّا أن صدقت دمعهم بعد أن كذبت قولهم.
- يا الله أيعقل...
قاطعني أبي وقال:
- نعم يا بني كانت هذه هي مدينتنا، جميلةٌ ورائعة، ثم أتت الحرب بعد الأخرى حتى محت جميع مظاهر الجمال والروعة، فلم يعُد الفتية يعلمون أن وطنهم كان جذابًا.. إن هذه الصور هي كنزنا الدفين، ذكرى عن وطنٍ لم يعد له وجود، يحاولون أن يمحو ذكراه ولكننا سنحاربهم بفعل ذلك.
فلو لم نستطع المحافظة عليه في الواقع، فسنفعل على الأقل ذلك بذاكرتنا.. إننا نصادف أمثالك كل يوم يا بني.. وكم من حسرةٍ ومرارة تخالجنا عندما نسمع قولكم بأن الوطن كان دومًا هكذا كئيبًا وحزين.. فلا شيء نستطيع أن نفعله سوى تسليم أمان حفظ صور الوطن في ذاكرتكم حتى تنقلوها للمتشككين بعدكم.. ومع مرور السنين والعقود سيعود الوطن من جديد لعهده القديم وسيرتدي حلته الرائعة البهية.. فما كان جميلًا سيعود جميلًا بلا أدنى شك.
تمنيت للحظاتٍ لو أني ظللت في جهلي قابعًا، فمعرفة جمال وطني جعلني أشعر بالحزن والغضب، بقيتُ لبعض الوقت أنظر إلى الصور وجزءً كبيرًا مني لا يزال غير مصدق ما قيل لي.
لقد تم الكذب علينا حقًا، وجعلونا نرى وطنًا لم يكن يومًا هكذا، شعرت بالدمع يخرج من جوفي كثيفًا وأحسستُ بحنين غريب لبلدٍ لم أره قط.
سألتهم بعد ذلك عن سبب عدم رؤيتي هذه الصور من قبل في أي مكان، فأخبروني ما زاد عجبي وحنقي هو أن الغزاة قاموا بإحراق كل شيء يربط الوطن بالماضي، كالكتب والمتاحف وحتى الصور.
ثارت مشاعري صارخة حتى إني رأيت الغربان تحلق مبتعدةً عني فزعًا. فلم يكفهم ما قاموا به من تدمير بل أرادوا أن يزيلوا الوطن الجميل من ذاكرتنا كذلك.
أعاد الكهل الصور لمكانها، وكانت عيناي تحدقان بها وهي تختفي عندما أغلق عليها الصندوق. وددتُ لو أني كنت بذلك الزمان حاضرًا حيث الجمال والطمأنينة والسلام. فوطني الجميل ما هو وللأسف غير وطنٍ في ذاكرة الصور محتجز. فمتى يا إلهي يتحرر ويخرج لأرض الواقع؟
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.