كان أبي رجلًا حنونًا، أمضينا معه أجمل طفولة وأنقاها، تميز والدي بحسن سيرته وبرفعة شأنه وحكمته وزهده في الحياة، لقد كان آخر ماعلق في ذهني من ملامحه أن الشيب كان يغطي رأسه ولحيته الوقورة، كان والدي متوسط القامة بدين الجسم قوي البنية، متأنقًا دائمًا بعباءاته المختلفة ألوانها، لم يكن أبي يضع السبحة من يده، فقد كان كثير الذكر والصلاة والتقرب إلى الله...
زرع فينا مكارم الأخلاق كلها، وروانا من مشارب التربية، وزرع فينا حب الخير والبذل والطموح والسعي، لقد كان أبي مثلي الأعلى في الكون...
لقد كانت طباعه الشخصية حادة جدًا، وكان ذا هيبة شديدًا، لكن قلبه كان رقيقًا جدًّا، فقد كان يتأذى من أبسط خدش وكأنه فؤاد طير، كان أبي تاجرًا عاش حياته يتنقل ببضاعته في مختلف الأمكنة والأزمنة، فاكتسب شهرة واسعة ومكانة رفيعة في كل مكان حل فيه.
لم يكن أبي قد تجاوز الستين من عمره بعد حين ألمَّ به مرض أصاب قلبه، ونهش جسده، وأفقده كثيرًا من راحته، وهل كان أبي ليصاب إلا في قلبه؟ هكذا هو المرض، يختار أضعف وألين وأنقى عضو في جسمنا ليستولي عليه، فكل شيء في هذا العالم يحب النقاء، حتى الخبيث...
هكذا أمضى أبي مدة ليست بالقصيرة يصارع المرض، ورغم كل ماكان يقاسيه إلا أن البسمة لم تفارق محياه يومًا، فقد كان بشوشًا كثير الابتسام وذا حس دعابي خفيف الظل والدم.
ذات ليلة لم تكن كباقي الليالي، مختلفة في نسميها وهوائها وفي رائحتها أيضًا هب على منزلنا جو كئيب، وعم الصمت أركان البيت، ولم يُقبل أحدنا على الآخر، كل شيء كان هادئًا يُنصت...
إنه أنين والدي، كان يتألم ألمًا شديدًا يفقده وعيه، لكنه ما إن يستفيق حتى يعود إلى أنينه، حملوه من فوره إلى المستشفى، فأعطاه الطبيب بعض الأدوية وأرسله إلى البيت، لم ترقد لنا عين حينها، ولم يهدأ لنا بال، حتى عاد أبي، لكن رغم عودته فإن شيئًا ما لم يعد معه، شيئًا ثمينًا بقي في مكان ما، إنها بسمته وبشاشته ونضارته، إنها الحياة..
في صباح ذلك اليوم استيقظنا جميعًا مفزوعين، أقبلنا على والدي نتفقد حاله، فإذا به جالس على كرسيه المعتاد في حديقة المنزل، ذلك كان مكانه المفضل، وفيه أمضى جل أوقاته، كان يجلس هناك، ويؤدي أذكاره في انقطاع تام، فقد كان زاهدًا متأملًا محبًا للطبيعة والنبات..
كان وضعه غريبًا، يبدو مستغرقًا في أفكاره وكأنه في عالم آخر، ولا تكاد شفتاه تنبس بكلمة واحدة إلا الصمت من جديد..
كانت حاله تلك أعظم كسر في قلوبنا، أعددنا مائدة الفطور وناديناه، فأقبل وجلس، ثم أكل وشرب، وبعد أن أنهى وحمد، مال جنبه على اليمين وكأنه يريد أن ينام أسند رأسه على السرير وعيناه إلى السماء، ثم رفع سبابته وبدأ يتمتم بألفاظ لم يفهمها أحد منا إلى أن شاهدناه بأم أعيننا يرتقي إلى عليائه، كانت لحظة وفاته غريبة جدًا، وكأنه كان على علم بها..
في البداية اعتقدنا أنه يريد أن ينام، ولم يستطع أحد منا تحسسه أو الحديث معه، كلنا كان في دهشة من أمرنا كأنما على رؤوسنا الطير، لم تصدق أعيننا مشهد أبي وهو ينطق الشهادة، لا تزال صورته حاضرة في ذهني، إنه حقًا أصعب موقف قد يمر فيه المرء في عمره، فراق والديه...
منذ خريف عام 2018 ونحن نعاني رحيل أبي كل المعاناة، كأنه كان مثل الروح لأجسادنا، رحل أبي في ذاك اليوم، ورحلت معه السكينة والأمان وأشياء كثيرة لاأعرف كيف أصورها أو أعبر عنها...
كانت جنازة أبي مهيبة مثله، حضرها مئات الناس، كان الجميع مصدومًا مذهولًا، كيف لرجل مثل أبي أن يرحل عن العالم بهذه السرعة؟
لا تزال سيرته الشريفة تتردد في الأذهان، ولا يزال اسمه أعظم شرف نلته، ولا تزال صورته تخاطبني في الخيال، ولا نزال على يقين بأن لنا موعدًا ثانيًا معه...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.