اختمرت الفكرة في رأس عويس، بدت له كل الترتيبات مكتملة. أحكم ربط حذائه جيدًا ثم شحذ سكينه القديم، فعاد له بريقه، ثم دسَّه في ملابسه.
فتح باب المنزل وتطلَّع إلى الخارج بحذر. كان الجو مثاليًّا لتنفيذ خطته، فالمطر يهطل بغزارة والليل هبط ثقيلًا على القرية كما يحدث في فصل الشتاء.
بدا الشارع خاليًا تمامًا، وصوت ارتطام المطر بالأرض التي تحولت إلى مستنقعات وبرك طينية لزجة يعلو فوق كل الأصوات، ولا يقطعه إلا أصوات بعض الصبية يتصايحون داخل المنازل مع بعضهم البعض أو فوق أسطح بيوتهم فرحًا بهطول المطر.
لم يلتفت عويس نحو أي شيء في طريقه. أراد ألا يلاحظه أحد.. مضى مسرعًا على الرغم من لزوجة الأرض الشديدة بفعل المطر. كاد أن يصل إلى الطاحونة المهجورة التي يشيع الجميع أن العفاريت تسكنها وتخرج ليلًا لخطف المارة وأخذهم تحت الأرض لتلهو معهم ثم تأكلهم.
توقف قليلًا قبل أن يدلف إلى الطاحونة، ونظر للخلف نظرة متفحصة، تأكد أنه لم يشاهده أي أحد، كانت خيوط العناكب داخل الطاحونة تتفاعل مع ملابسه المبتلة فتسبب له الحكة.
كل شيء في نظر عويس يسير وهيِّن إن نجح في قتل عبد الصمد. أخذ يجتر كل ما فعله خصمه حتى لا يتراجع، ومع كل ذكرى يرتفع الأدرينالين في دماء عويس، فتتسارع ضربات قلبه، ويتصبب عرقًا، ويزداد تصميمًا على تنفيذ خطته. تذكر كيف وعد عبدالصمد أخته حنان بالزواج، التي كانت تحب عبدالصمد دون أن تخبره، فأشرقت حياتها ونسجت الأحلام بأن يجمعهما بيت واحد ليعيشا معًا وإلى الأبد.
سلمت حنان نفسها لعبد الصمد وهي تظن أنه أصبح ملكها فمكنته منها. بعدها لم يعد يسأل عنها أو يطلب مقابلتها، ثم انتشر في القرية خبر خطبة عبدالصمد من ابنة عمه.
بعد ملاحظة الأم ذبول حنان وتغير ملامح وجهها المضيء إلى الظلمة، سألتها ما حلَّ بها. انهارت حنان وقصت على أمها ما جرى. سقطت الأم من الصدمة وأصيبت بشلل نصفي، وعرف الأب بعد ذلك الحقيقة، فما مر عام حتى شيّعوه إلى مثواه الأخير.
كان عويس وقتها في العاشرة من عمره، لكنه أدرك ما حلَّ بأمه وأبيه بسبب ما جرى، لم يعد عويس يكلم أخته التي ما أحب أحدًا مثلها، فقد كانت تعد له في الصباح الإفطار قبل المدرسة، وتساعده في ارتداء حذائه وملابسه وحقيبة الكتب، وكثيرًا ما استدعاها لتدافع عنه أمام بعض زملائه أثناء عراكهم معه.
في أحد الأيام صباحًا، استيقظت الأم وعويس على صراخ حنان التي تناولت قرص الغلة السام (فوسفيد الألمنيوم)، وما هي إلا دقائق حتى أصبحت حنان جثة هامدة.
مرت عشرة أعوام، أصبح عويس شابًا قويًّا، وأصبح جاهزًا ليطفئ النار المستعرة في قلبه، خصوصًا بعد وفاة أمه، فلم يعد يوجد أحد يخشى عليه.
استفاق من ذكرياته على قدوم شبح من بعيد، فأيقن أنه عبد الصمد، الذي كان يروي الحقل ليلًا، وعويس على دراية بذلك. اقترب عبد الصمد من شارع الطاحونة.
كان عويس كامِنًا يراقب من الداخل اقتراب خصمه من مكمنه. ارتفع الأدرينالين في دماء عويس، واشتدت قبضته على السكين في يده، نزل على ركبتيه ناظرًا لهدفه. انقض عليه وقال له:
- "أتعرفني يا عبد الصمد؟ أنا أخو حنان".
رد عليه:
- "أعرفك طبعًا. ماذا تريد؟"
نظر له عويس قائلًا:
- "أريد أن أستريح".
ثم طعنه طعنةً قوية في صدره، فسقط عبد الصمد على الأرض وهو يحشرج، فعاجله عويس بطعنة ثانية وثالثة ورابعة، ثم اهتزّ رأسه وهو يصيح: "الآن أنا عدت للحياة".
رأى أحد أهالي القرية ما حدث الذي كان بيته قريبًا من الطاحونة، فأسرع واستدعى الخفراء، الذين أسرعوا للطاحونة، فوجدوا عويس وبيده رأس عبد الصمد. لم يهرب ولم يهتم بقدومهم، فاقتربوا منه وأمسكوه بإحكام واقتادوه إلى مركز الشرطة.
في الطريق، مروا على المقابر، فنظر عويس نحو قبر حنان وهو يبتسم ابتسامة الصباح، عندما كانت حنان تودعه قبل ذهابه للمدرسة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.