«يومكِ مبارك أيتها الآنسة، إنه يوم الأرض، الثاني والعشرون من نيسان. نحن نحتفي في الأرض أبدا، نطويها من أقطارها، فيما المتجذّرون يتنازعوها شكلًا متخيلًا: مسطحة، بل كروية، لا بيضاوية.. حتَّى توشك أن تصير حَدَبة على ظهورهم. كم هم أشقياء، وفيما يهمنا شكل الأرض يا عزيزتي إن لم تكن على شكل حقيبة سفر؟»
- لا يهمني شكل الأرض ولا من عليها.
- نعم، هو ذاك. حسبنا الطّواب في آفاقها. هل تدرين أيتها الآنسة، فيما تكون ميزتنا نحن المنحدرون من برج القوس؟ ميزتنا في أننا نلتقي. نعم نلتقي؛ لأن عشق السّفر سمتنا الأبرز، فكان القطار هو الملتقى..
- أنا لا أطيق السّفر.
- أشاركك فيما لا تطيقين يا عزيزتي، أنتِ على صواب، من كان القوس برجه يصيب دائمًا كما يصيب السهم هدفه. نعم نحن نعشق السّفر، نستلذّ به، لكن لأنّا مرهفو المشاعر، نستثقله لأن ثمّة غيرنا يتجشم وعثاؤه.
هبي أنّي سألتكِ في محطة القطار عمّا تحملين على كتفك؟ لا بد وأنّكِ ستقولين حقيبة سفر أليس كذلك؟ بلى، وأنّها لكذلك، مجرد حقيبة سفر، كما يراها النّاس الزائدون عن عالمكِ، من لا يعنيهم أمرك، فغيابكِ وحضوركِ سيان عندهم.
لكن يا عزيزتي، في حياتك ممن تشقّ عليهم أسفاركِ، من يؤرقهم فراقكِ، أجل، لو سألتيهم، ماذا أحمل على كتفي؟ لقالوا: عصاة المسافر، لماذا عصاة المسافر؟ لأنّكِ توسعينهم ضربًا حتّى تتوبين عن سفرك.
- إنّك لتحسن زُخرف القول، تتحدّث كبطل رواية. لا بأس، تحدّث كما يحلو لك، لن تغيّر في أمري شيئًا، أنا لا أطيق السّفر ولا أحمل عصا، زد على ذلك أني لست من برج القوس، أظن الحبكة قد خلصت.
- إن فيك من الحدّة بقدر ما فيك اللين، ذاك شأن الجميلات، مدٌ وجزر، همودٌ وغليان، لكن تبقى الجميلة جميلة، تروق المرء هامدة وهي تفور، فما هي إلا بين حالتين، برودة العصير وحرارة القهوة.
- وتجيد الحديث أيضًا، ولديك سرعة بديهة، لكنّك بغيت على الصّمت.
- طالما أنا أجيد الحديث وحاضر البديهة، فلماذا عليّ أن أصمت يا عزيزتي؟ ولماذا تضيقين ذرعًا بالحديث الجيد؟ حسبتُ إخراس الأصوات الجيدة حكرًا على ممالك البوليس! هل كان عليّ أيتها الآنسة أن أكون سيئ الحديث غائب البديهة كي يُعطى لساني حريته؟
- الصّمت جيد أيضًا أيها اللسن، والأقتصاد في الحديث الجيد أجود.
- يا عزيزتي، أن أعظم الغموض حيرةً يكتنف رجلًا صامتًا أو شحيح الكلام، لذا أنا أُكثر كيْلا أبدو شكلًا غامضًا يجلس إلى جوارك في سفرٍ طويل، لكنّك تبخلين بسمعك وتغضّين لسانك، هذا أمرٌ يدعو للحيرة، لا تطيقين السّفر، وسفرنا طويل، اثنا عشر ساعة لم تبدأ بعد، أتعلمين أن الحديث يقصر الطّريق كما يُقصر النوم سواد الليل، فلم لا نقصره؟
- بإمكانك أن تنعطف يمينًا إلى الرّجل القاعد إلى جوارك، ثمّ تقصره بالقدر الذي تريد.
- وهل يليق بي يا عزيزتي؟ ذاك رجلٌ لا أعرفه، أن الحديث إلى شخصٍ مجهول ثقيلٌ على اللسان، كما هو الاستماع إليه ثقيلٌ على السّمع. في سفرٍ ماضٍ حادثتُ أحدهم، فأطلتُ الطريق من حيث أردت القصر.
- وتُقصر طريقك بالحديث إلى امرأة مجهولة؟
- بل أعرفها كما أعرف ظاهر كفّي اليمنى، هل يعقل أني أجهلكِ، يا عزيزتي لقد ضيّقتِ آفاق معرفتي إلى حدود مقعدي، وهذا لا يليق.
- أقسم إنّك ما رأيتني على غير هذا المقعد، ولكنّك تعمد إلى الحديث على أي وجه.
- لأنك في ناشئة الحياة، تجهلين أن المرأة أولى معارف الرّجل، أول من سار على هذه الأرض اثنين، رجل وامرأة، هبطا متعارفين، عاشا زوجين وخلفا هذا العالم.
- ذاك صحيح، عندما كانت الأرض لا تحمل غيرهما، أمّا اليوم، فأنت رجلٌ من ثلاثة مليار وأنا امرأة من أربعة، جمعتنا أعظم الصدف شيوعًا وتكرارًا، هل تعرف اسمي يا عزيزي، طبعًا لا تعرفه، فأنت تفقد مفتاح التّعارف، فعن أي معرفة تتحدّث؟
- لا أحفظ الأسماء، ولحواء أسماء كثيرة، على أنّي أعرف المسمّى وهذا حسبي، وكما تعلمين للزّهرة أسماء كثيرة، لا تحفظها النّحلة لكنّها تعرفها وتجنيها زهرة زهرة.
- إن كنتُ أنا زهرة كما شبهتني، فما تشبه المهجور القاعد إلى يمينك، كرسي شاغر؟
- يروقني هذا التّهكم، في كلّ ردٍّ تُسفرين عن صفة محببة، فأطمع أن أستزيد، فما السّفر إلا إسفارٌ. حسنًا، فليكن شجرة غامضة، والأشجار يا عزيزتي ليست على سويّة، منها ما يعطي الثّمر ومنها ما يرسل الظلّ، وفيها مصانع السهام والرّماح المزهقة للأرواح، وربما كرسي خشبي كما أشرتِ.
- شجرة أذن، وأنت أي نوعٍ من الأشجار، أم تراك شجرة غامضة؟
- حديث الأنا المبجّلة يُكذّب وإن كان صدقًا، فلن أقول أنّي شجرة الزّان المقدّسة، وعلى كلٍّ ليس عليكِ أن تقلقي من أي شجرة، فالأشجار لا تؤذي الزّهر.
- وتؤذي الأشجار بعضها، فأنت شجرة نافرة من أختها منكفئة على زهرة، أليس كذلك؟
- بل وحتّى الشّجرة الواحدة تؤذي بعضها، الفأس الذي يضرب جذعها غالبًا يكون فرعًا منها.
- قد قلت أن الأشجار لا تؤذي الزّهر، فكفّ الأذى عن زهرة، ودع الطريق يطول.
- سأجيبكِ إلى ما طلبتي، سأكون شجرة مقطوعة ولكن حين يتحرّك القطار.
- تقصد أنّك ستتركني وشأني طالما القطار سائر؟
- أجل يا عزيزتي، سيكون المقعد الذي على يمينك شاغرًا، فتحملي فلسفتي فيما بقي من وقتي.
- هل أنت فيلسوف؟
- يا عزيزتي، حين يتحدّث الرّجل إلى امرأة قد يتحوّل إلى مسيح.. يفصح إن كان أخرسا، لكنّي الآن أراكِ تكثرين النظر في السّاعة، وكنتِ قبل قليل تبدين مستفزّة لحديثي، وأني أفضل أن يكون حديثي مستفزًا على أن يكون مملًا، إن كنتِ قد سئمتِ حديثي، فسأبلع لساني وأتنازل عمّا بقي من وقتي.
- وهل تجد في عينيّ نظرات الملل؟
- عندي فراسة تغنني عن الاستجواب، ولكن حتّى أتفرّس عليّ أن أنظر في عينيكِ مباشرة، وهذا ما لا أستطيعه.
- ولماذا لا تستطيع أن تنظر في عينيّ؟
- يا عزيزتي، وإن كنتِ أرق كلّ ذي كبدٍ، لكنّك ذات هيبة ومهابة بذات القدر، لا يكون النَّظَر إلا استراقًا يتبعه شرر.
- تغازل بأسلوب عجيب، لكن الأعجب أنّك أخطأت الطريق.
- أخطأت الطّريق! ماذا لو قلت أنّي أحبك؟
- في تلك الحالة، لا بد أن تكون فارًا من مشفى المجانين.
- لو كان الوقت يكفي، لتماديت في هذا السّياق حتّى آخره، لكن اسمحي لي أن أوضح لكِ أمرًا قد يفيدك في شيء. يا عزيزتي أنا أحدّثكِ بضمير المخاطب كونكِ امرأة بصفتها العامة، أنا أحبّ المرأة كأجمل ما أحبّ من الأشياء المعنوية، كقيمة نبيلة أو كشعور بهيج. أن الجمال يا عزيزتي يكمن في ما يشعر به المرء تجاه المرأة، الأمر ليس له علاقة بالمظهر المادي، مُذ زمن بعيد وأنا أعتنق قول القائل: "الأغبياء فقط هم من يحبون المرأة لجمالها المرئي."
أنا أيضًا لا أتغزّل بصفات المرأة الظاهرية مطلقًا، ومُذ زمن بعيد هجرت الشّعر الغزلي، غزل التشريح العضوي للمرأة، أرى في ذلك إساءة بالغة لها. راقني موقف فتاة فطنة حادة الذّكاء تدعى نادين، أحبت شابًا وكان ذلك الشّاب شاعرًا، كتب فيها قصيدة غزلية، فلما وصلتها القصيدة، لقنته درسًا ينبغي أن يلقن به كلّ شعراء الغزل، قالت فيما قالت: وماذا يعني أن تصفني بأجمل ما تراه من خلالي رأي العين، ثمّ لا خلة تعجبك فيّ ولا صفة تحبها غير ديكوري، كأنّي باقة وردٍ صناعي أو حيوان جميلٌ بلا عقل.. وقالت أشياء تفوق عمرها. إنها فتاة عظيمة صعب المراس..
- ومن تكون نادين؟
- ها قد بدأت الغيرة توقد فتيلك..
- نعم؟!
- أمزح يا عزيزتي.. سأخبركِ، نادين هذه تكون بطلة روايتي، فتاة ذكية، قطعتُ معها شوطًا، ثمّ لظروف ما تركتها لسنتين، ذات ليلة، رأيتُ نادين في المنام، كانت منكسرة حزينة، تقول: لماذا تركتني في منتصف الطريق؟ أتدرين يا عزيزتي أين تركتها لحولين كاملين؟ لقد تركتها في منتصف الطريق بين البئر والدّار، لسنتين واقفة وجرة الماء على رأسها... عفوًا، ها هو القطار يوشك أن ينطلق، لدّي آخر ما سأقوله لكِ، هو حديث سيسعدكِ كثيرًا، هل تأذنين لي أيتها الآنسة الجميلة؟
- أنا أسمعك.
- حسنًا. كنتُ رأيتُك من الخارج، وأنا أبتاع جريدة، فعمدتُ إليك كي ألطف لك الجو عندما رأيتُك مكتئبة، لكنّي زدت الأمر سوءًا وهذا يؤسفني، ما علمت قبل الآن أني ثقيل الظّل، فطيبي نفسًا، أنا لستُ مسافرًا وعليّ النّزول الآن، فاقبلي اعتذاري، ورحلة سعيدة يا عزيزتي..
- إن كنت لا تمزح، فهذا أسوأ ما قد سمعته.
- لا أمزح، ستتأكدين عندما ألوح لكِ من خلف الزّجاج بعد لحظات.. صحبتكِ السّلامة..
- انتظر! ارجوك لا تذهب، لِمَ فعلت هذا؟ لن أسامحك..
- حرتُ في أمرك! هل أزعجتكِ ثرثرتي، أم ذهابي بها؟!
- لم تكن مزعجة ولا ثرثرة، قد كان أجمل ما ترهف له الأسماع، لا يمل مهما طال، وحين كنت أنظر في الساعة لم تكن نظرات ملل، بل هي نظرات قلق من يداهمه الوقت.
ما عرفتُ الحديث يأكل الدقائق بهذا النّهم قبل الآن! لقد لطّفت مزاجي المتعكّر نعم، لكنّك في النهاية أطلقت رصاصة. آخر ما سأقوله لك، إنك لا تفهم المرأة أبدًا..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.