قصة "نصائح العابد الزاهد".. قصة قصيرة

خرج العابد الزاهد من كوخه الجبلي، متكئًا على عصاه بشعره الأشعث ولحيته المتهدلة على صدره، يحمل على كتفه جعبته التي بها من الكتب القديمة، ما يستزيد منها من علم وحكمة تعينه على اجتياز الأيام.

فمر بثلاثة من الفتيان يجلسون على قارعة الطريق، فناداه أحدهم ساخرًا:

- يا شيخنا الزاهد، أما زلت تقرأ في كتبك القديمة؟ ألم تخبرك بعد عن طالعك في هذه الدنيا؟

فتوقف الشيخ ونظر إليه نظرة المستهجن كلامه قائلًا له:

-ليتك تتعلم كيف تقرأ كل قديم حتى يستوعب عقلك الحاضر، فتستنتج المستقبل بدلًا من أن تعيش عقيمًا، أما أنا فقد قرأت طالعي، وأعرفه منذ ولدتني أمي، فعرفت حقيقة الدنيا من بدايتها حتى نهايتها، فزهدت في كل شيء فيها، فلم أبال بكثيرها ولا قليلها...

فبشربة ماء أبلغ سعادتي وبكسرة خبز أقيم صلبي، وبفضل الله أقضي حاجتي، فيذهب عني الهم، ويفارقني حزني، وأملك الدنيا تحت أقدامي لا أمام عيني...

أما أنت فما تراه وتسخر به مني فهو من غمام الجهل الذي أُسدل على عينيك، وغرور زهوة شبابك الذي تجهل أنه لن يدوم، وإن لم تستتب وتفارق شيطانك فمصيرك محتوم...

واحذر من لسانك، فقد يهلكك بكثرة الخصوم، واحذر من كثرة التمني وبلوغ الأمل، فلا شيء يدوم، وإياك أن تغرك الدنيا، فغبار رمادها إن لم يلتصق بثيابك يومًا ليذكرك بنهايتك وبمن فارقوها، فلا موعظة سوف تجدي معك ولا نصائح حكماء وأصحاب علوم.

فنكس الفتى رأسه في الأرض معتذرًا لذلك العابد الزاهد، وقبل أن يهم العابد ليسلك طريقه، سأله الفتى الثاني:

-أخبرنا أيها العابد إذن بما يسعدك وبما يغضبك وبما يحزنك بعيدًا عن طعامك وشرابك وقضاء حاجتك.

حينئذ اقترب العابد من السائل وتمعن في وجهه وهو يقول له:

-لقد سألتني عن الدنيا في ثلاثة مواضع، أما ما يسعدني فاعتزالي الناس داخل بيتي، فلا يؤذيني أحد ولا يرى أحد مني حالي، فأعيش بستري مرتضيًا بأحوالي.

وأما ما يغضبني فهم المتلصصون على أحوال الناس، المتتبعون لعوراتهم، فيفضح معيشتي، ويخرج للناس ويحدثهم بما رأى عني، فيجعلني مثل مضغ الطعام في أفواههم فيعتصرون لحمي حسدًا أو نقدًا أو سخرية، فينقلب حالي ويزداد همي وغمي، فيذويني حتى تصيبني الأسقام والأوجاع، وتضيق حالي، فاحذر حسد العيون فإنها تجعل النعمة تزول.

وأما ما يحزنني فغدر الزمان، وانقلاب الحال، وتبدل الأحوال، فيصير اللئيم الخسيس سيد الأقوام، ويُذل الأصيل الكريم من بعد عز فيُهان، ويموت العدل ويستفحل الظلم بأيدي اللئام، ويصرخ المستغيث مستجديًا الرحمة فتُصم الآذان، وترى الطفل من الهم تحسبه شيخًا وهو لم يبلغ الأحلام، ويكثر الهرج ولا يكترث الناس بإراقة الدماء.

وتحل الفواحش فلا تسمع ناهيًا ولا مستنكرًا ولا محذرًا من عاقبة الآثام، ويغفل الناس عن عواقب ما اقترفوا من ذنوب، فتحل عليهم اللعنة والكوارث مثل من سبقوهم من الأقوام، حينها يا ولدى تنتهي الدنيا والناس نيام.

حينها سأله الفتيان الثلاثة بصوت واحد:

-إذن، أخبرنا قبل رحيلك كيف تنتهي الدنيا والناس نيام؟

حينئذ دمعت عين العابد ومسح بيده على لحيته ونظر إليهم قائلًا:

-حينما يكون الناس على هذه الحال، والكل في نهم يجمعون الأموال، وقد اكتنزوا الذهب والفضة، ولا يبالون بأنين الجياع، وأمنوا على أنفسهم واستبدت بهم الأماني، وغاصوا في الأحلام جاء يوم ترجف فيه الأرض رجفتها، فينظر الناس إلى السماء في هلع، فلم يجدوا فيها شمسًا ولا قمرًا ولا نجومًا، وقد تلبدت كلها بظلمة الغيوم، واختفت مساكنهم فلم يعد لها وجود.

ووقف الجميع مشدوهًا لا يعلم إلى أين يذهب ولا إلى أين تخطو قدماه، فالكل سُلبت منه إرادته حتى من كان يجلس لم يستطع أن يقوم، وانشقت الأرض فخرج كل من فيها في هول وذهول، ونادى المنادي فتنبّه الجميع إلى الصوت، وساروا إليه بأدب وخشوع.

وحينها أيقن الجميع أنه يوم لا يستطيع أحد منه الفرار ولا الرجوع، فمن نجا منه يا ولدي فرح وفاز، ومن خانته قدماه سقط في هاوية لا مخرج له منها ولا ملاذ، عندها رفعت الأقلام وجفت الصحف.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة