بجمالها الفتان، وشعرها الغجريّ المُجعد، وصوتها الندي، وغنائها الطربي، وجسدها الذي يطفح أنوثة؛ أثارت انتباه المدعوين عامة، وأتقنت فنَّ مراوغة الفضوليين منهم، واستقطبت اهتمام "المختار" خاصة، حتى راح يسأل عن اسمها، إنه"راضية" اسم جميل، لامرأة تتهادى في غنج الهوى، بديعةَ الحُسن في عقدها الرابع، راح يتتبع حركاتها وسكناتها.
وقبل منتصف الليل، وفي لحظة استراحة، استأذنت رفاقها أعضاء الفرقة الموسيقية، وانسلت من خيمة العرس، ثم اتجهت إلى المطبخ. تعقبها إلى هناك، ألقت التحية على الطباخات، والتمست منهن أن يعطوها ما تسد به رمقها، تدخل "المختار" مرحبا، آمرًا القائمات على المطبخ بإعداد عشاء فاخر لـ"نجمة الليلة" كما سماها، مقدمًا نفسه لها قائلاً:
- أنا أخ العريس، على الرحب والسعة، تفضلي سيدتي.
- شكرًا سيدي.
مضت تأكل طبق الدجاج بنهم شديد، وحين أنهت، قدم لها بنفسه طبق فواكه، وقال:
- أنت ضيفتنا الجميلة المميزة الليلة، نحن رهن إشارتك.
- ضيفة.. نعم، أما جميلة.. فلا.
- كيف؟
- الجمال جمال الجوهر والمظهر معًا.. أما ما تراه فمجرد مساحيق سرعان ما تزول.
- أنت جميلة بالفعل.. اسمحي لي سيدتي، أن أسألك: ما الذي دفعك لممارسة هذا العمل؟
ابتلعت ريقها، وبح صوتها، واكفهر وجهها، وعلته سحابة حزن، ثم انسابت من على وجنتيها عبرات، مسحتها توًا، واستجمعت قواها، قائلة:
- وطأة الزمن، وقساوة الظروف، هما اللتان أجبراني على العمل في الأعراس.
- أليس لديك زوج؟
- كان لدي..، ففرطت فيه، وضيعته...
- كيف حدث ذلك؟
- اغتررت بجمالي، فتكبرت عليه، ودست - من فرط غروري - على طهارته...
هل ندمت على ذلك؟
- بالفعل، "ندمتُ ندامة الكُسعي..." كما يقول العرب في المثل المأثور، أتعرف من يكون الكسعي؟
- لا...
- الكسعي رجل كان يدعى محارب بن قيس، يضرب به المثل في الندم، لشدة ما بدر منه من ندم، اعتراه على كسر قوسه، فقد سبق غضبه ندمه...
- اللهم إنا نعوذ بك من ندم الكسعي.
- وهل ينفع الندم؟!
- إنه الإبصار الذي يأتي متأخرًا.
- هي المقادير، دع الندامة، فلست أول من زلت به قدم.
- بل سوء التقدير، وهل يجبر ما انكسر؟! فطرت فؤاده، وها أنذا متروكة كشيء على رصيف انتظار طويل، يخفق في بدني توق لأراه، واستعطفه لينتشلني مما أنا فيه.
- إلى متى ستبقين عالقة في فخ الندم؟
- هذا إحساس فضيع يهاجمني، يضغط عليَّ، ويشعرني بضياع أيام حرثي، ومن ضيع أيام حرثه، ندم أيام حصاده.
- كفى من جلد ذاتك، ولا تبقي واقفة على حافة دوامة الندم، وافعلي ما بوسعك لترسمي نهج حياتك من جديد...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.