طوال ساعتين كاملتين كنتُ أحبس أنفاسي خوفًا منها ومن ردة فعلها غير المتوقعة، وكيف لا وهي الجادة طوال الوقت والملمة بكل عصور الأدب العربي وكأنها عايشتها وشاهدت الأحداث بأم عينها.
لم أستطع أبدًا أن أفسر هذا الحزم الذي تظهره تجاه دارسي آداب الثقافات الأخرى وكأنهم ارتكبوا جريمة في حق الأدب العربي، وما العيب في أن يطلع المرء على ثقافة مغايرة فيدرس كُتابها وشعرائها ويتزود عله يستطيع أن يفهم كيف يفكر الآخر.
أذكر يوم أن كان الجو شديد الحرارة وكان موعد محاضرة الأستاذة في الثانية ظهرًا عوضًا عن العاشرة صباحًا، ولقد اعتدنا في هذا الوقت تحديدًا أن نتجمع ونترجم المسرحية التي ندرسها بل ونوزع الأدوار ونقلد الشخصيات، وكان لدينا هذا الغرور الذي يجعلك تشعر أن بإمكانك أن تكتب أفضل منها، بل ونعيب خط سير العمل الدرامي ونعدل الأحداث ونربطها بعفوية بالدراما العربية، ونقول هذا الفصل يشبه فيلم كذا، وهذه الشخصية مثل فلانة الممثلة.
وقتها جاء اتصال من الأستاذة تطلبنا أن نذهب إليها لنكمل دراسة الأدب العربي في كليتها، وحقيقة لم يكن يفصل كلا المبنيين سوى أمتار معدودة، وجاء التحذير في آخر الاتصال من عواقب التخلف عن الحضور رادعًا للجميع وقاتلاً لتلك الرغبة في مواصلة دراسة المسرحية الشهيرة والامتثال لأوامر أستاذة الأدب العربي المتحفظة على نوع الدراسة التي ندرسها من الأساس وتضعنا دون مبرر في معسكر الأعداء.
ذهبنا إليها وكانت القاعة في الدور الخامس حسب ما علمناه والصعود للطابق الخامس كفيل بسحب أي طاقة من الدماغ ناهيك عن كون الموعد غير ملائم بالمرة.
ذهبنا فوجدناها تنتظرنا ويملأ المدرجات الأولى أعداءنا دارسي الأدب العربي، وهذه ثاني مرة تحصل مواجهة بين كلا الفريقين، أذكر أننا في المرة الأولى هزمناهم شر هزيمة، وأثبتنا تفوقنا وعقدنا للأستاذة مقارنات بين العصور الأدبية جعلتها تندهش؛ إذ إن المنافسين لم يتفوهوا بكلمة ولا مشاركة تذكر، كان المنهج موحدًا على الجميع ألا وهو دراسة الأدب العربي القديم.
أظهرت استياءها لكوننا تأخرنا ثلاث دقائق ومن الباب الإنصاف فهو وقت صعود الدرج ليس إلا، ولكنها تلك المشاعر الدفينة التي تكنها لنا بغير ما سبب يذكر.
جلسنا لسوء الحظ في آخر القاعة وتركنا منتصفها فارغًا وكأننا صنعنا حدًّا جغرافيا فاصلاً بيننا وبينهم جهلاً وغرورًا منا؛ ليمتاز كل فريق عن الآخر وما هي إلا دقائق معدودة وهبت نسمات من الشبابيك الخلفية.
جعلت الجميع يشعر برغبة عارمة في النوم، فلقد دخلت الأستاذة في شرح العصر الأموي، واستفاضت لدرجة يصعب معها المتابعة وتلك النسمات التي تدفعك لأخذ قيلولة، وكيف لا ولقد بدأت المحاضرات في الثامنة ووقت الظهيرة مخصص لتجديد النشاط والترجمة واللعب، وها هو قد ضاع لأجل عيون الأدب الأموي.
خفت من أن أنام فتراني وهكذا حال من يريد أن يرتكب إثمًا فهو يعرف أنه يقترف خطأ ولكنه يصر على فعلته، بل ويتمنى أن يفلت بلا عقاب، وكانت الأستاذة توجه تلك الأسئلة على حين غرة، وتخص معسكر الأعداء خاصتنا بالأسئلة الصعبة الملتوية، فلم أجد بدا من المتابعة والإنصات.
بعد ما يقرب من ربع الساعة دخلت إحدى الزميلات وكأنها لم تنتبه لهذا الفاصل الجغرافي وجلست لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فأصبحت ظاهرة جلية للجميع، ثم ما لبثت أن غطت في ثبات عميق وعبثًا حاول الجميع إيقاظها برمي الورق أو النزول للأسفل في محاولات يائسة للوصول لمقعدها.
كنا في غاية الرعب، فلو لاحظتها الأستاذة ستكون طامة كبرى، وأول سؤال ستسأله هو عن الهوية وإلى أي فريق تنتمي تلك المتناومة، وإذا ما أجابت بأنها تنتمي لفريقنا فالعقاب مضاعف وعام وشامل ويشمل حارس القسم ومقاعده، بل إنها قد تتهور وتتصل برئيس القسم وتشكو حال المتناومات الكسالى المتقاعسات عن المتابعة والتحصيل.
وأعلنها على الملأ، هذه أول مرة أردد جميع الأذكار التي أحفظها ثم أستعين بكتاب أدعية، وأنا ابتهال وجميع زميلاتي في دعاء كاف بحل مشكلات البشرية جمعاء لكي تستيقظ الزميلة العزيزة أو أن يجعل الله على عين الأستاذة غشاوة، فلا ترى تلك التي نامت دون أن تقدر عواقب فعلتها.
طبعًا هربت كل تلك الوساوس والرغبة في النوم إلى غير رجعة، وكأنك قد احتسيت جرة كاملة من القهوة، فالوعي قد عاد على حين غرة وتركيز من حيث لا تدري ولا تحتسب، ليس حبًّا في العصر الأموي ولكن خوفًا من بطش هذه القاسية.
في أثناء ذلك تجد نفسك وقد عادت الذاكرة إليك وتذكرت كل بيت قيل ومناسبة قوله ولو كانت تلك الذاكرة في الامتحان لضمنت الامتياز بلا جدال، لا مفر من متابعة الهاتف لمعرفة الوقت، وأستطيع أن أؤكد أن الدقيقة تمر في تلك الأوقات العصيبة بعشر دقائق على الأقل؛ إذ إن الدقيقة تتمهل وتتريث وتفكر قبل أن تترك المجال للدقيقة القادمة.
وفي حركة غير مسبوقة كانت كفيلة بأن تبث الزعر في قلوب الفريق وتقضي على أي أمل في النجاة، سقطت كتب الزميلة وهاتفها وحقيبتها محدثة ضجة أثر السقوط وكأن كل من في القاعة يريد أن يشي بتلك النائمة التي لم تنتبه لسقوط تلك الأشياء، فلقد انزلق الهاتف تبعته الكتب وتلتهم الحقيبة في سيمفونية تتفوق على بيتهوفن بمراحل، ثم لتزداد الأمور سوءًا وجدنا الزميلة تهوي وشعرت بأن قلبي على وشك التوقف من الخوف، ولكن الله سلم فلقد هبطت رأسها على الطاولة الصغيرة أمامها، كل هذا والأستاذة تكتب وتحلل وتتبع شعراء العصر.
ثم وكأنها قد اكتفت التفتت وسألت عما إذا كنا قد فهمنا الشرح والمقارنة بين أعشى بني ربيعة والأخطل والفرزدق والنابغة الشيباني وبشار بن برد وجرير وسعيد الدارمي وتوبة بن الحمير وأبو الشمقمق، وحقيقة لا أرى أي سبب لتتبع ما قاله هذا وذاك فجميعهم جلسوا حول ينابيع المياه الصافية متنعمين بالليل والخيل والبيداء والأمسيات الشعرية الجميلة تحت ضوء القمر، وتركوا لنا أن نتدارس كلامهم في وقت القيظ والظهيرة.
من باب أولى أن يدرس الشعر في جو مناسب ومكان مناسب لا في خصم معركة طاحنة بين القديم والحديث، وعقوبة تلوح في الأفق، وصمت وكأن على رؤوسنا الطير، لا بد من أن يُدرس الشعر تحت ظروف مواتية بديعة من شتى النواحي؛ ولهذا السبب لا أكتب الأشعار لأن هذه الذكرى وحدها كفيلة بقتل أي إبداع.
وضعت الأستاذة قلمها وجمعت كتبها وتنفسنا الصعداء ولولا الخوف من عودتها لأطلقنا الصيحات وتبادلنا التهاني، ثم بنفس ملؤها الفخر توجهنا لتلك الزميلة لكي نوقظها لكي نعود لمقرنا واستفسرت عن المحاضرة في براءة متناهية فتطوعت إحدانا أن تقص لها أحداث المباراة.
دمتم بكل ود.
مايو 14, 2023, 4:42 م
بالرغم من قساوة الأستاذة إلا أنني أفتقد بشدة لتلك الأعوام الدراسية التي كانت كما يُقال "سنوات مرت من العمر." .. أحببت كل كلمة سبقت مُبدعة... كما اعتدنا عليكِ...♥️♥️
مايو 14, 2023, 4:56 م
حبيبتي تسلمي 😘😘 وانا أيضا أفتقد سنوات الدراسة ولقاء الزميلات وضغط الامتحانات
مايو 14, 2023, 6:54 م
لقد ذكرتني بأيام الدراسة ،كانت أياما لا تنسى .تحية لأستاذي في اللغة والأدب العربي ولكل أستاذ علم وأدى رسالته.
كل التوفيق 👍🏻
مايو 15, 2023, 5:01 ص
شكرا لمرورك العطر 🌹🌹🌹❤️
مايو 15, 2023, 8:01 ص
فعلا كانت أيام لا تنسى💖رائعة يا أستاذة أسماء💓💓
مايو 15, 2023, 8:02 ص
فعلا كانت أيام لا تنسى 💖رائعة يا أستاذة أسماء💓💓
مايو 15, 2023, 2:39 م
حبيبتي ♥️♥️ تسلمي شكرا لك يا اجمل وأرق زهرة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.